dimanche 3 mars 2013

الإصلاح وإرساؤه في المجتمع


الإصلاح قضية عميقة بدأ الجدل يحتدم حولها منذ استفاقة المسلمين على مدافع الغرب تدك حصونهم إثر سبات قد طال، وإرساء هذه العقلية في المجتمع قضية ثانية لا تقل أهمية عن سابقتها ذلك أن الإصلاح وفكرته التي تحصنه إذا لم يكن لها امتداد في المجتمع فإن الفكرة تكون منبتة لا فائدة ترتجى منها.

من تاريخ الإصلاح في تونس

شهدت تونس في القرن التاسع عشر محاولات عديدة للإصلاح إثر تردي الوضع المعيش وتردي الأحوال السياسية والإقتصادية والاجتماعية في البلاد، في حين كانت الضفة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط تسارع الخطى في الاكتشاف والتقدم العلمي وتطور الفكر والمعارف عندهم. فكانت محاولات الإصلاح في كل من مصر وتونس متقدمة إذا ما قارناها باليابان، في تلك الفترة، والتي استلهمت من التجربة الإصلاحية التي قادها كل من رفاعة رافع الطهطاوي في مصر وخير الدين التونسي في تونس. وكانت رحلتي هاذين الأخيرين للغرب حينها وكتبهم عن ذلك كفيلة بكشف الهوة الساحقة التي تفصلنا عنهما فتبلور على امتداد تلك الفترة من الزمن في القرن التاسع عشر وكذلك القرن الذي يليه سؤال محوري "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟" (عنوان كتاب لأمير البيان شكيب أرسلان) وحاول المفكرون الإجابة على هذا السؤال فتعددت الأفكار وتعددت المشارب بين من يرى أن التخلي عن تراثنا (الدين، الثقافة، التقاليد ...) هو الكفيل بالتقدم والتطور واتباع الغرب شرط كاف لتحقيق التقدم وبين من يعتقد أن الرجوع لهذا التراث هو الحل الذي يكفل لنا الإصلاح ويوثقه والأخذ بأسباب التطور لا يتعارض مع تراثنا، وتبلور حينها الاتجاهان، اتجاه التغريب من جانب، واتجاه الهوية في الجانب المقابل.

ولعل ما يقوله الحبيب ثامر رحمه الله تعالى في إحدى خطبه يجلي ما كان يشعر به المثقفون من ضرورة الإصلاح في مسار الأمة، إذ يقول أنهم (( رأوا جهلا مظلما سمه القاتل في سائر طبقات الشعب. رأوا فقرا مدقعا مخيما على كامل البلاد. رأوا عوائد وأخلاقا إسلامية ذاهبة إلى الاضمحلال والتلاشي. رأوا دينا حنيفا تهتك حرمته ولا يراعى جانبه. رأوا لغة آبائهم وأجدادهم دخلت في طيات النسيان.)) لذلك ((بادروا إلى جمع جهودهم وتنظيم صفوفهم للدفاع والمقاومة وسيكون النصر حليفهم فتبلغ آمالهم طال الزمن أو قصر)). (كتاب الحبيب ثامر هذه تونس)
فكانت من ثمرات مجهوداتهم إثر تحديد ما يشغل بالهم من بلاء أحاط بالأمة أن قاموا بانشاء المدرسة الصادقية وتطورت المدرسة الزيتونية وأصدرت الصحف العديدة باللغتين العربية والفرنسية واكتسب طلاب المدرسة الزيتونية وعيا نقابيا ووعيا فكريا أنتج من بينهم ثلة من المثقفين وثلة من القضاة والمصلحين الذين ساهموا في إنشاء وعي مجتمعي في تلك الفترة كانت ثمرته امتداد شعبي للحزب الدستوري الحر (القديم والجديد) وحراك نقابي وحركة فكرية كللت سنة 1956 بالاستقلال. فيمكننا أن نقسم الاستقلال في تونس على ثلاثة مراحل بدأت بالعمل المسلح في بدايات الاستقلال الذي سرعان ما تهاوى أمام المستعمر الفرنسي ويليه حركة الاستقلال اللين من خلال العمل الثقافي والوعي بقضايا البلاد والعمل السياسي والتعريف بالقضية التونسية في الخارج وتظافر جميع جهود هذه الأعمال لتصب في آخر المطاف في المرحلة الثالثة التي كللت بثورة على المستعمر الفرنسي بجميع الوسائل والأساليب اللينة منها وكذا المصادمة المسلحة المباشرة أو المصادمة من خلال المظاهرات والانتفاضات لتكسب تونس استقلالا مستحقا عملت عليه أجيال لتحقيقه.

يعلمنا الإمام العلامة ابن خلدون رحمه الله أن التاريخ لا يزيد في ظاهره عن الإخبار إنما في باطنه نظر وتحقيق. والمتمعن في ما سقته من تاريخ البلاد يلاحظ من خلال تقسيم الفترات أن الإصلاح كان على ثلاثة مستويات : إصلاح الفكر وتقويم الرأي، الانتشار والامتداد الشعبي، التفعيل والتطبيق.

الإصلاح والفكر

أساس الإصلاح الأهم هو الفكر، فالفكر ملازم لتحديد المسار ووضوح الخيار ورسم هدف يرجى بلوغه وتحقيقه.
إن إصلاح المجتمع يقتضي فكرا نابعا من ثقافة المجتمع وتراثه أولا وهو ما فرضه تيار الهوية على الساحة كواقع لا يمكن التشكيك فيه منذ سنوات عديدة فلم نعد نسمع هرطقات كانت تتداول بين التيار التغريبي من نقد مباشر للإسلام واعتداء صارخ على الهوية والمرجعية الوجدانية التي تعد صرحا بالنسبة للشعب لا يمكن التشكيك فيها أو تذليلها لتجاوزها (انظر كتاب من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، كذلك كتاب شاهد على تجربة الحركة الإسلامية في مصر ففي كليهما توثيق وانتقاد لهذه الاعتداءات التي كانت ظاهرة حينها عند ضمور الامتداد الإسلامي سواء في تونس أو في مصر أو في سائر الأقطار العربية الأخرى كذلك).

ومن خلال كلمة الحبيب ثامر سابقة الذكر نتبين منها أهمية الإرتكاز في الإصلاح على الدين واللغة، فإن فاقد لغته يظل أعرجا في طريق الإصلاح قد انسلخ من جلده ولم يسعفه جلد آخر ليتدارك أمره، أما بالنسبة للإسلام فهذا الدين يحتوي من الخصائص ما يساعد على الإرتقاء الحضاري لو تم فهم هاته الخصائص وحسن استغلالها.

يعدد سيد قطب خصائص الإسلام في كتابه خصائص التصور الإسلامي فيجعلها سبعة خصائص. فالإسلام دين رباني من المولى عز وجل يمتلؤ فيه قلب المرئ بالإيمان بالله تعالى الذي يجعله محاسبا لنفسه قبل أن يحاسب فلا مكان فيه للمادية الدافعة لتكريس هدم المبادئ على حساب الشهوات، إنما توزن الأفعال في ميزان المبادئ التي قررها الإسلام. وهو دين ثابت، فلا مجال فيه لتحريف البشر ولا إلى زيادة أو نقصان في مبادئه وهكذا تكون المبادئ ثابتة لا تتخلخل بكذب المبطلين ولا بغلو الغالين ولا بتدليس المفترين، وشرعته ينهل منها العالم الدارس للعلوم والمعارف ويحيط بها الرجل البسيط والمتمعن المتدبر في كتاب الله وسنة رسوله وهذا من معاني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "تركتكم على المحجة البيضاء" وهو خطاب إلى عموم الأمة لا إلى خواصها. ومن خصائصه أيضا، باختصار، الشمول، فهو دين شامل لم يكن دين عابد في مسجد فقط ولا عامل في معمل فقط ولا لطالب في جامعة فقط ولا إلى حرفي في دكانه فقط ولا إلى مجاهد في ميدان جهاده فقط ولكنه دين هؤلاء جميعا يشملهم ويشمل أعمالهم، فإننا نتعبد الله في المسجد كما نتعبده في ميادين الجهاد الاخرى. كما أنه دين متوازن وازن بين الحياة الدنيا والآخرة، وبين اللين والشدة، وبين العبادة والراحة. وهو دين الإيجابية الذي يأبى السلبية والانحلال في الواقع والرضى به. وهو دين واقعي لا ينطلق من معطيات وهمية ولا يبغي الوصول لهدف هلامي إنما ينطلق من المعطيات المتوفرة للوصول إلى أفضل المستطاع المأمول. وهو بعد وقبل كل هذا دين التوحيد، الذي وحد خالق الكون، فوحد بذلك الهدف والغاية إليه وجعل النية واحدة خالصة له فلا تحيد الأعمال عن غاية واحدة ولا يرجى من دون المولى إله، ولا ينتظر من غيره جزاء ولا شكورا، ولا يراد دون المولى كائن من كان.
فحري بهذا الدين أن يكون دافعا ومحركا لشعب مسلم يريد بلوغ التحضر، وكما قلت لو يفهم الإسلام بعيدا عن مغالاة الغالين، وبعيدا عما يدعيه المحرفين.

الفكر الإصلاحي والمجتمع

إن ما سقته ليس للقراءة ومن ثم مرور الكرام، بل إن الواجب من تعلم هاته الأفكار والمبادئ أن تبنى عليها الأعمال، وقبل هذا أن تنشر وتذاع بين الناس. وكما يقول مالك بن نبي أن ما ينقص المسلمين ليس الأفكار، بل الأفكار متوفرة موجودة إنما تنقصهم ثقافة الحركة لتفعيل هاته الأفكار.
إني أكتب هذه الكلمة وأنا أستحضر من ناحية ما تحدثنا عنه في الفقرات السابقة عن تاريخ تونس وجهاد قارع عنان السماء ليظفر المجاهدون بثمرة أعمالهم بتحرير البلاد فكريا واقتصاديا وسياسيا، إني أكتب وأضع في كفتي اليمنى هذا التاريخ ومعه تلك المحاولات الإصلاحية التي سقاها المفكرون بعصارة أفهامهم واجتهاداتهم، ثم أضع في كفتي اليسرى من الناحية الأخرى واقعنا المرير ونحن نترنح في جامعاتنا على رقصات الهارلم شايك ! في تلك الجامعات التي كانت في السابق ساحة للنضال ضد المستعمر ورفض سياساته وساحة للاضرابات منذ بدايات القرن الماضي للحصول على الحقوق وتحقيق المطالب، وكانت ساحة للحوارات الفكرية في السبعينات والثمانينات تعج بالحركة وبصناعة جيل واع عارف، وكانت خلال الثورة ساحة للنضال ضد ابن علي وانطلاق المسيرات ضده لتحرير البلاد من قبضته الديكتاتورية. ها قد تحولت هذه الساحات اليوم إلى ساحات للرقص، عوض ان تكون تلك الجامعات مصدرا لإنطلاق مبادرات التغيير والإصلاح وتكون مصدر إلهام حقيقي في الإصلاح وردم الهوة بيننا وبين الغرب. إن الجامعات والمعاهد مرآة المستقبل طالما أنها الساحات التي تروي نخبة المستقبل بماء معرفتها لتخرج لنا جيلا يرتقي بواقعنا، والظاهر الجلي لنا أن مستقبلنا لن يخرج عن الرقص على جراح الأمة ومصائبها بترنح نخبة المستقبل في ساحات العلم والمعرفة.

إن المطلوب تحديد الهدف والغاية من خلال الإحاطة بمرجعيتنا الفكرية، ثم العمل على نشر هذه المرجعية بما تحتويه من مبادئ وغايات سامية وأفكار قادرة على تغيير حال الأمة حتى تكون واقعا يعيش به الناس ولا تكون ثقافة نخبة، بل ثقافة شعب، ثقافة مجتمع، ثقافة متجذرة في أمة. وعند تحديد الغايات والأهداف نعرف لمَ نعمل وأين نريد الوصول ونجتنب الأعمال المعطلة لتقدم أمتنا فنتقدم نحو الغاية دون انحراف على المسار، وإذا عرفنا ذلك وعلمنا هدفنا كان العمل قرينا للعمل موازيا له، فغاية العلم العمل، والعمل لا ينجح إلا إذا وجد قاعدة شعبية تبنت الفكرة وتبنت العمل لها. وهكذا لا يكون الإصلاح عمل أفراد وطموح نخبة، بل يكون الإصلاح والتغيير هدف أمة بكاملها، وتكون الأمة محرك الإصلاح.