samedi 22 février 2014

02- بدايات الظهور والتأسيس مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله

02- بدايات الظهور والتأسيس مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب (رحمه الله)

تمهيد :

يعتبر التاريخ مدخلا ذا أهمية لفهم تطور الأفكار وتحولاتها وبهذا الاعتبار يكون مدخلا أيضا لفهم الأفكار ذاتها، خاصة أنه يوفر دراسة محاضن الفكرة وأسباب بروز معالمها وأهم ما تقوم عليه وتطمح إليه. ومن هذا المنطلق فإن فهمه واستيعابه هو أحد الأركان الأساسية لتجنب سوء الفهم، وعدم الإلمام بخطوطه العريضة قد تكون أحد أسباب انحراف الأفكار وخروجها عن مدارها. وعلى هذا الأساس فإن الإحاطة بشيء من تاريخ المدارس الفقهية والحركات يعتبر مدخلا لفهم بداياتها ومدخلا كذلك لمعرفة التغيرات التي صقلها الزمن بها.

حول المدارس الفقهية :

يعتبر كل من العمل الأثري والعمل النظري ركنان أساسيان لأي عمل فقهي، وذلك لاستحالة استقلال أحدهما عن الآخر. إذ أن النصوص القولية هي الأدلة الإجمالية للأحكام التفصيلية فتكون بذلك أصولا للفقه. واستخراج أحكام الفقه من أصوله يعتبر بمثابة استخراج المفصل من المجمل. وهكذا يتكامل كل من العمل الأثري والنظري في استنباط الأحكام. ويمتنع القول أن فقيها، أيا كان مبلغ علمه، قد استقل بالنظر عن الأثر، أو بالأثر عن النظر.

وهذا الكلام لا يتنافى مع ما شاع بين الفقهاء في نظر بعضهم إلى بعض وبين الناس في النظر إليهم أنهم منقسمون إلى كتلتين : أهل الأثر وأهل النظر أو أهل الحديث وأهل الرأي أو أهل الرواية وأهل الدراية. فكان المذهب الحنفي ينظر إليه على أنه مذهب نظر، وكل من المذهب المالكي والشافعي والحنبلي مذاهب ينظر إليهم على أنهم مذاهب أثر.

وفي الحقيقة فإن هذا التصنيف كان باعتبار التفاوت النسبي بين هذه المذاهب في مدى أخذها بكل من الركن الأثري والنظري. فإننا إذا نظرنا إلى أصول الفقه نجد أن كل أصل يعود من قريب أو بعيد إلى أحد الركنين في حين أن تصنيف الفقهاء إنما يفهم إذا نظرنا إلى التفريع الفقهي فيبرز حينها التفاوت النسبي من حيث إيلاء الجانب النظري حظا أكبر أو الجانب الأثري، كحجية أهل المدينة وسد الذريعة والمصالح المرسلة والاستحسان وغير ذلك. كما غطّى هذا التفاوت المذاهب الأثرية مقارنة في ما بينها. "فكان المذهب المالكي معتبرا بالنسبة إلى هذه المذاهب الثلاثة أقربها إلى الرأي. وكان المذهب الشافعي معتبرا أكثر توغلا في المنهج الأثري من المذهب المالكي. وكان المذهب الحنبلي معتبرا أكثر توغلا في المنهج الأثري من المذهب الشافعي الذي هو أوغل من المذهب المالكي في ذلك." (1)

وهنا وجب التنويه إلى خطئ شائع مفاده أن الإمام أبو حنيفة لم تتسع روايته في الحديث فسد النقص بأدلة الرأي. فضلا على أن هذا القول يعتبر قولا قادحا في إمامته فإنه لا يصح إذا ما علمنا أن تلميذ الإمام أبو حنيفة أبو الحسن الشيباني لم يتخلى عن أصول المذهب الحنفي وقواعده وهو الذي اتصل اتصالا وثيقا بالإمام مالك وخبر مذهبه وأصوله وكان محدثا جمع أحاديث العراق وأحاديث الحجاز. والأمر ذاته بالنسبة للإمام مالك فقد استغرب الناس روايته لأحاديث لم يتخذها أدلة في أحكام الفقه وأشهرها حديث خيار المجلس. لذلك فقد وجب أن نعلم أن تفرعات مذاهبهم الفقهية هي الأرضية التي بنوا عليها اختياراتهم الفقهية، وليست المسألة مسألة عشوائية لا أساس لها ولا قواعد.

وقد تكوّن الإمام أحمد بن حنبل على المذهب الشافعي فأخذ ما كان ينكره هذا الأخير على المذهب المالكي وزاد توغلا في المذهب الأثري على الإمام الشافعي حتى أنه اعتبر أن خبر الآحاد حجة يقينية. وزاد اغراقا في الأثرية الإمام داود بن علي الأصفهاني حتى أنه عطل بعضا من صور القياس التي يقول بها الإمام أحمد.

وقد كان للتناظر الدائر حول علم الكلام بين المعتزلة وبين أهل السنة والجماعة أشد التأثير على المذاهب الفقهية. فقد كان أصحاب المذاهب الأربعة سنيين ووقف أتباعهم كلهم ضد النظرة الاعتزالية فكان كل من الأحناف، المالكية، الشافعية والحنابلة والإمام أحمد بن حنبل نفسه مجافين ومنكرين عليهم. وقد برزت إمامة أحمد بن حنبل على المذاهب السنية ونُظِرَ إليه بإجلال وإكبار إثر الفتنة التي تعرض لها وثباته على المذهب السني. ويتجلى ذلك من خلال جنازته العظيمة التي ضربت بها الأمثال. وظهر قريبا من هذه الفتنة الإمام الأشعري وطريقته في الدفاع عن مذهب أهل السنة والجماعة، فتقبّل الناس هذا المذهب بشيء من النفور في بادئ الأمر لتخيلهم أن الحديث والسنة شيء وعلم الكلام شيء آخر. بيد أن الإمام الأشعري بيّن أنه على عقيدة أهل السنة والجماعة رغم أخذه بطريقة المعتزلة في منهجهم الإستدلالي، فبدأ أتباع المذاهب يطمئنون إلى الإمام الأشعري وأصحابه وساد هذا الإطمئنان بين أتباع المذهب المالكي والشافعي وبقي الحذر عند الحنابلة باعتبار المقابلة التي سادت في التصور آنذاك في التقابل بين الإمامين ابن حنبل والأشعري. وظهر الإمام أبو منصور الماتريدي الحنفي وكانت طريقته قريبة من طريقة الإمام الأشعري. فحصل التقارب بين الأحناف والمالكية والشافعية مقابل استمساك الحنابلة بموقفهم وأنهم أتباع الإمام أحمد بن حنبل لا يحيدون عن منهجه.

ورغم هذه الاختلافات بقيت المذاهب تعتبر أن الاختلافات بينها إنما هي اختلافات جزئية إذا ما وضعنا في الكفة المقابلة مذاهب أخرى كالإسماعيلية أو الجعفرية أو الإباضية وغيرهم، فبقيت الوحدة بين المذاهب الأربعة ظاهرة جليّة لِكونِهَا مذاهب سنية. رحم الله جميع أئمتنا.

وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو حنبلي المذهب أحيى منهج الإمام ابن تيمية وتأثر به. (2)

مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب :

ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بلدة العيينة شمال الرياض سنة 1703م (الموافق لـ 1115 هـ). طلب العلم في كل من المدينة والبصرة على أيدي مجموعة من شيوخ وأهل العلم فتتلمذ على يد الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي في الحديث فأجيز في الكتب الصحاح ومؤلفات الدارمي ومسند الشافعي وموطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد بن حنبل كما أجازه الشيخان الداغستاني والإحسائي بمثل ما أجازه به الشيخ عبد الله. ثم انتقل بعد ذلك إلى البصرة فأخذ من علماءها علوم الحديث واللغة والنحو خاصة. ووجب ألا ننسى والده الذي بدأ تعلمه عليه منذ صغره وعاد إليه بعد سفره إلى البصرة ومن بعدها الشام ليلزمه ويأخذ عليه التفسير ويلزم كذلك كتب الإمامين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله اللذان تأثرا بهما.

كانت أوضاع نجد وسكانها اللذين شاعت فيهم المنكرات والبدع والشركيات مما تألم إليه الشيخ وعقد العزم على محاربته ومقاومته وحفزه لذلك شيخه عبد الله النجدي، وزاده تحفيزا على ذلك ما كان يقرأه للإمامين ابن تيمية وابن القيم. فحذر من التضرع بالرسول والصحابة والصالحين دون الله عز وجل وحذر من الذبح لغير الله والحلف والاستعانة بغير الله ومثل هذه المسائل الشائعة حينها فألف في ذلك المتون ليستفاد منها وكان كثيرا ما يصدع برأيه حتى أخرج من البصرة لآراءه هذه فقصد الشام. (3) أما في نجد فقد بدأ بقومه في قرية (حريملا) حتى وقع بينه وبين الناس نزاع في ما كانوا يعتقدون ويؤمنون حتى مع والده.

أما من حيث الأوضاع السياسية في الجزيرة العربية فقد كان يسيرها كبراء أهل كل قرية وكل عشيرة ومن أشهر هؤلاء الأمراء بنو خالد في الإحساء وآل معمر في العيينة والأشراف في الحجاز. وكثيرا ما كانت تدور الحروب والمعارك بين قبائل نجد. وكما ذكرت فإن الحكم كان ذاتيا للقبائل (الكثيرة) لا تضبطها إمارة واحدة ولا تقع إلا في أجزاء قليلة منها تحت الخلافة العثمانية.

وهنا كانت البداية في العلاقة بين المجال السياسي في الجزيرة العربية والمجال الدعوي الذي كان يمثله الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فبعد أن اتبعه بعض قومه في (حريملا) انتقل الشيخ إلى مسقط رأسه العيينة محاولا أن يصنع علاقة بين المؤسسة السياسية (الحاكم) وبين المؤسسة الدينية التي كانت متمثلة في شخص الشيخ محمد. فعرض على حاكم العيينة عثمان بن حمد بن معمر دعوته وشرح له التوحيد وما يدعوا إلى نبذه من المعتقدات والشركيات وعرض عليه أن تكون له السيادة والملك إن ظهر على مخالفيه. (4) فاشتهر أمره هناك وذاع صيته حتى وصل خبره إلى سليمان بن محمد بن عريعر حاكم الإحساء فهدده عثمان بل وأمر بقتله فانصاع إليه وأمر بإخراج الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبعث لقتله ولكنه نجا مما أرادوه به.

نزل محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعد ذلك بالدرعية وكان أميرها محمد بن سعود الذي أقتنع بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب غنيمة ساقها الله إليه فعزم على مقابلته ومعرفة دعوته، وهو ما كان، وهنا كان الاتفاق بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية وكانت بنود الاتفاق كالآتي (5) :
- يتعهد الأمير على نصرة الشيخ ونصرة دعوته على من خالفه واتباعها.
- ألا يرجع الشيخ عنه إذا تم للأمير النصر فيكون الملك عنده وفي ولده من بعده.
- ألا يمنع الأمير من الخراج الذي ضربه على أهل الدرعية وقت الثمار، فذكر الشيخ محمد عبد الوهاب له أن ما سيفتحه الله عليه وينال من "الغنائم" (هكذا) سيغنيه عن الخراج.

وبعد أن صار الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أهل منعة هاجر إليه من كان قد اتبعه في القرى التي مر عليها، ولم يؤذن لعثمان بن حمد الذي طرده من العيينة بأمر من سليمان بن محمد بالانضواء تحت دعوته من جديد إذ أن الشيخ أحال الأمر إلى الأمير محمد بن سعود الذي رفض أعيان البلاد التي جاءت مع عثمان وردهم خائبين.

استعان الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته المحاججة بالمراسلات والمناظرات وكان ذلك مجال المؤسسة الدينية كما استعان أيضا بالسيف (أي الحروب) وتساقطت القبائل في الجزيرة الواحدة تلو الاخرى حتى وصلت الحروب إلى العراق والشام.

أهم ما تدعو إليه الدعوة الوهابية (6) :

- محاربة البدع والشرك من مثل عبادة الأشجار وزيارة قبور الصالحين والتبرك عندها والتوسل بغير الله عز وجل (ويخرج عن هذا القسم التوسل بالأعمال الصالحة الذي يعتبر مندوبا في الدعوة الوهابية)، وكل ذلك تحت منهجية التوحيد أولا، في باب توحيد الألوهية أي تخصيص الله وحده بالعبادة دون سواه وهو المحور المتنازع فيه ومدار الدعوة الوهابية التي قامت عليه، ومن أشهر كتب الإمام محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد.
- الدعوة إلى عدم التقليد وفتح باب الاجتهاد بالعودة إلى الكتاب والسنة وما كانت عليه القرون الثلاث الأولى.
- تحريم مناهج الفلاسفة وعلم الكلام وتحريم التأويل ووجوب أخذ النصوص كما وردت.
- طاعة ولي الأمر وتحريم الخروج عليه واعتماد منهج الإصلاح في التغيير.

خواطر حول الدعوة الوهابية ودولتهم :

لا شك أن تاريخ الدعوة الوهابية فيها من نقاط الاختلاف الشيء الكثير، خاصة في قضية الحروب التي تم خوضها في الجزيرة العربية ضد من يفترض أنهم مسلمون وجب محاججتهم ومناظرتهم لا محاربتهم. ولكن هذا الموضوع يصعب ضبطه مع عدد القبائل التي كانت متربصة بنواة الدولة الجديدة التي بدأت في النمو فبادروها بالحرب، فيتوجب أن يكون الحكم موضوعيا مبنيا على أحداث ووقائع لا على أوهام أو استنتاجات سريعة مؤيدة للدعوة الوهابية أو ضدها. وعلى كل حال فإن هذا الموضوع لم أعره اهتماما في هذا المبحث إذ أنه ليس موضوعنا وقد أردت الإحاطة ولو جزئيا بتاريخ أحد أعلام الفكر السلفي الذي كان له الفضل الأبرز في إحياء هذا الفكر والتعرض لشيء من مسار دولته بعد مماته.

من خلال دراسة الدعوة الوهابية وبدايتها والإطلاع عليها نجد أن الإمام محمد بن عبد الوهاب قد قام بثلاثة أمور مهمة ومترابطة ينبغي استحضارها :
- تحليل الواقع المعاصر له ودراسة الإشكاليات
- دراسة حلول للإشكاليات المعاصرة
- استخراج الحلول بمنهجية ذات امتداد في الفكر الإسلامي

كان الشيخ محمد عبد الوهاب قد عاين إشكاليات عصره من بدع منتشرة تصل إلى حدود الشرك في أحيان كثيرة، وهو أمر عادي إذا وقفنا على ذلك العصر بأبعاده الثقافية والعلمية فكثرت الخرافة وقل العلم خاصة في الجزيرة العربية. رغم هامش خلافي بينه وبين أئمة آخرين حول وصفه لبعض المسائل بالشرك. (7) فحدد الإمام الإشكاليات التي تحيط بواقعه وعدّدها فوجد أنها إشكاليات تتمركز حول باب التوحيد خاصة، فجعل الحلول مبنية على رؤية عقدية حدد فيها أصول الدين وشروط التوحيد وصنف في هذا الباب عدة متون وكتب. وكانت كتبه معتمدة على مدرسة ضاربة بأطنابها في تاريخ الفكر الإسلامي وهي ما يتعارف عليه بـ "أهل الأثر" أو قل إن شئت أقصى هذه المدرسة باعتبار أنه حنبليٌ تيميٌ. فأفنى الشيخ محمد بن عبد الوهاب جهوده في سد هذه الثغرة العقدية الهامة التي وجدها متوسعة في محيطه، وهو باب مهم يستحق بذل الجهود العلمية فيه والاشتغال به. فلم يكن الإمام منبتا عن واقعه بل واكبه إلى حدّ الانصهار في هذه الإشكالية التي تمثلت له كمفتاح الإصلاح الأساسي.

وقد كان من سلبيات الإقتصار على المسألة العقدية دون غيرها ضعف شديد في السياسة الشرعية وفي غير ذلك من العلوم. فانسلخت الدويلة الجديدة عن الخلافة العثمانية ولم تنزل تحت رايتها وفي هذا من المساوئ الشيء الكثير حتى أن الخلافة العثمانية صار يهددها مجموعات من المتربصين على غرار الإشكاليات الداخلية وحروب دول أوروبا والإمبراطورية الروسية فضلا عن دولة نجد الجديدة التي استقلت عن الخلافة العثمانية وأخذت ترسم خطها بمفردها. وواضح أن العلاقة بين الدولة الوهابية سواء في بداياتها أو بعد أن يشتد عودها مع الخلافة العثمانية لا يمكن إثارتها والتطرق إليها من قبل الإمام محمد بن عبد الوهاب، حتى أنه لم يرسم معالمَ لها ولو كخطوط عريضة خلال حياته. وذلك يعود لاعتبارين اثنين، الأول أن من شروط الاتفاق مع المؤسسة السياسية ألا تتراجع المؤسسة الدينية في نصرة محمد بن سعود وأن يكون الملك عنده وعند ولده من بعده، أي أن الدويلة الوليدة صارت ذات نظام ملكي. وثانيا أن منهج التغيير عند الإمام محمد كان يوجب الإصلاح لا الثورة على الحاكم، وهو الذي بايع محمد بن سعود كولي أمر. (8) فنتج عن السببين مفسدة عظيمة تمثلت في انفصال بين المؤسسة الدينية وبين المؤسسة السياسية وما لبثت هذه الأخيرة أن تغولت على الأول وتحكمت فيها.

ومما ابتلي به بعض أنصار الدعوة الوهابية أنهم يرون الحقائق شبهات، ويرون التاريخ الذي يدين أخطاء دولتهم الأولى مجرد تزييف، ويرون كل ناقد مجرد حاقد متحامل. فإننا لا نملك لهؤلاء إلا الشفقة والدعاء ! ولعلك تجد من أقوال هؤلاء وزعمهم الباطل ما يتغاضون فيه عن أصول وأحكام من معتقداتهم كوجوب وحدة الأمة والعمل على جمع كلمتها ومبايعة خليفة واحد، بل مقاتلة من شق عصا الطاعة، كما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه" (9). وإنك تجدهم مع كل ذلك مستعدين للدفاع عن أخطاء واضحات بتزييف للتاريخ، أو دعنا نَقُلْ، نَقْلُ ما يدعم أقوالهم وترك ما يفندها فيحرفون بذلك الكلِم عن مواضعه. فتراهم تارة يزعمون أن الخلافة العثمانية لم يمتد سلطانها إلى تلك الديار في نجد، ويتناسون أن الدولة الوهابية قد احتلت الكويت وحاصرت بغداد ووصلت إلى الشام إلى دومة الجندل حتى أخذت من أهلها أموال الزكاة في إشارة إلى تبعيتهم وولاءهم إلى دولة غير الخلافة العثمانية بل إنهم حاصروا دمشق وحلب. فإنهم لا ينقلون هذه الحقائق ويتغاضون عنها ذلك أنها تسبب لهم حرجا شديدا فإنهم لا يجدون مخرجا للجمع بين نقيضين، بين قولهم بتحريم الخروج عن الحاكم ولو كان فاسقا ظالما جائرا وبين ما وجدوه مما يخالف هذا الحكم عندهم في تاريخ دولتهم ومع علماءها الأوائل ابن عبد الوهاب وأبناءه رحمهم الله.

وإن عجبت فاعجب من اقتناع بعضهم بأن الدولة الوهابية لم تكن خنجرا في ظهر الخلافة العثمانية ! فإن هذه الأخيرة كانت تقارع الإمبراطورية الروسية والانجليز والفرنسيين، وهي مع كل ذلك تخمد الفتن في الداخل وتناهض الدولة الوهابية التي امتد نفوذها ليهدد العراق والشام ويصل مكة والمدينة. وإن من لم يدعم المسلمين في جهادهم ضد العدو ويشتت صفهم لا يكون إلا خنجرا مسلطا عليهم ولا شك، وإننا لم نسمع بفوج واحد للوهابيين ناصر الخلافة العثمانية في جهادها ضد الأعداء حينها في حين أننا سمعنا بولايات وصلت للإقتراض لدعم الجهاد وإرسال الفيالق مما أثقل كاهلها فكان ذلك سببا من أسباب احتلالها كتونس، وأخرى وقعت في الاحتلال فعلا كالجزائر، وأخرى وصلت إليها حملات نابليون كمصر ! (10) وزعم فريق آخر بعد أن بانت لهم الحقائق ولم يجدوا سبيلا لتأويل المصادمات مع الخلافة العثمانية بالحروب، زعموا أن السلاطين العثمانيين وعلماء المسلمين في أصقاع دولة الإسلام حينها كانوا أصحاب بدع و"شرك أكبر" (هكذا وردت في كتاب أحدهم باللفظ) يجوز جهادهم ومحاربتهم (11) بل إنهم نقلوا وجوب "محاربة الشرك" و"رفع راية الجهاد لمحاربة من يصد عن سبيل الله" (12)، وهم يقصدون بذلك الخلافة العثمانية التي وصلت بكلمة التوحيد إلى شمال إيطاليا وقلب أوروبا. بل أزيدك من الشعر بيتا عندما تعلم أن صاحب هذه الافتراءات يخلص إلى استنتاج مفاده أن السبب الحقيقي للخصام بين الوهابيين والخلافة العثمانية إنما هو "خصام في الله قائم بين الموحدين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين" (13)، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، فهل سقطت الخلافة إلا من أمثال تفكير هؤلاء الرعاع الذين لا يتورعون عن قتال المسلمين ويجيزون ذلك حسب أهواءهم واصفين إياهم بالمشركين ؟! ولا يلبث هؤلاء حتى يقعوا فريسة في أيدي القوى الكبرى وبرامجها ضد المسلمين ؟! نعوذ بالله من الخذلان والضلال المبين ! وهذا ما جعل الشيخ عبد القديم زلوم يصنف قيام الدولة الوهابية ضمن الأسباب الدافعة لسقوط الخلافة العثمانية في كتابه كيف هدمت الخلافة (14) وقد صدق رحمه الله. ولا يخفى عليك ذلك بعد ما بينّاه، ولا يحتاج هذا لجهبذ في التحليلات السياسية حتى يدرك هذه الحقيقة.

ولو أن المدافعين عن الدولة الوهابية أخلصوا في البحث وارتفعوا بنياتهم إلى مقامات الصفاء لتخلصوا من عقدة الدفاع عن الأخطاء بكل أصنافها. ومن تلك الأصناف أخطاء الإمام محمد بن عبد الوهاب الذي كان بعيد النظر في الجانب العقدي قصيره في الجانب السياسي، فسلك فيه مسلكا لامس به ما كان عليه غلاة الصوفية من اشتغالهم بما عندهم وتركهم للسلطان والحاكم وما لهم. مما حمل الخلل للمؤسسة السياسية وراحت تعبث بأختها الدينية مستفيدة من اقتصارها على المجال العقدي وتغييبها للجانب السياسي. ولا أدري إن كان الإمام محمد بن عبد الوهاب قد آثر تجرع سم الخرق السياسي على سم الخرق العقدي فوازن بينهما وخيّر تقديم الإصلاح العقدي على الآخر أو أن هذه الفكرة السياسية، بما وراءها من قتل وحرب بين المسلمين وإقدام على سلبهم وسبيهم وإرهاق للخلافة العثمانية ومحاربتها وتشتيت لجيوشها، كانت مما اقتنع به الإمام محمد بن عبد الوهاب ومما خيل إليه أنه متبع لدليل شرعي تأوله في ذلك، وهي ازدواجية في تبني الأقوال الفقهية إذ كان الأولى موالاة الخلافة خاصة لمن تبنى وجوب مبايعة ولي أمر واحد وجمع كلمة المسلمين. وسواء كانت الأولى أو الثانية فإن ما نتج عن ذلك من الشر لعظيم وكِلا الرأيين باطل لا يمت لسلامة المنهج السليم بصلة. وعلى كل حال، فإن مما يآخذ به الإمام محمد بن عبد الوهاب عدم تبيينه للسياسة الشرعية للدولة الوليدة، وخاصة حدود تعاملها مع الخلافة العثمانية ولو اتبع الأدلة الشرعية فقدم ولاءه للخلافة العثمانية فتوحد المسلمون وكانت كلمتهم واحدة لربما سلم المسلمون مما وصلوا إليه من سقوط الخلافة وتجرع سم الدول القطرية الحديثة. ورب خلاف يحسبه سفهاءٌ غير ذا خطب قد شتت أمما وأرداها في أسفل السافلين.

وزاد هذا الضعف السياسي للدولة الحديثة مع الخلافة العثمانية ضعفا آخر متمثلا في ضعف العلاقة مع المؤسسات الدينية المعروفة كالأزهر والزيتونة والقرويين فضلا عن علماء الأمة، فلم تبنى علاقة قويمة مع تلك المؤسسات بل كانت العلاقة أشبه بعلاقة تهديد سياسي لا مناظرات شرعية ومحاورات علمية يركن كل عالم فيها إلى دليله، وأوضح دليل على ذلك رسالة الإمام محمد بن عبد الوهاب إلى علماء الزيتونة ورد علماء الزيتونة على رسالته. (15) ومما جاء في الرسالة ويكشف لك شيئا من نظرة العلماء في الدعوة الوهابية قول الإمام القاضي عمر محجوب رحمه الله ردا على رسالته : "... أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام، وإخافة أهل البلد الحرام، والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم إضرام الحرب بين المسلمين وإيقاده، فقد اشتريتم في ذلك حطام الدنيا بالآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرقتم كلمة المسلمين، وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين ... ". ثم يقول : "... أما ما تأوَّلته من تكفيرهم بزيارة الأولياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينهم وبين رب العالمين، وزعمت أن ذلك شنشنةُ الجاهلية الماضين، فنقول لكم في جوابه: معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد، وأن يأتي إليها معظمًا تعظيم العابد، وأن يخضع لها خضوع الجاهلية للأصنام، وأن يعبدها بسجود أو ركوع أو صيام، ولو وقع ذلك من جاهل لانتهض إليه ولاة الامر والعظماء، وأنكره العارفون والعلماء، وأوضحوا للجاهل المنهج القويم، وهدوه الصراط المستقيم ..." ومثل هذه الرسالة رسائل كل من فقيه فاس الشيخ الطيب بن كيران ورسالة الشيخ الزيتوني إسماعيل التميمي ورسالة الفقيه الحنفي محمد أمين بن عابدين. (16)

كانت هذين سلبيتين اثنتين كافيتين لإعادة النظر في قراءة الإمام محمد بن عبد الوهاب للواقع الديني من جهة والواقع السياسي من جهة أخرى والتداخل في ما بينها، ولعله ظن أن حواضر ذات أهمية كالآستانة ومصر وتونس لا تختلف عن واقع الجزيرة العربية (التي كانت غالبيتها حينها ذات حكم ذاتي من جهة وقبلي من جهة أخرى، ولعل ذلك يتوضح من خلال رسالة الشيخ عمر المحجوب رحمه الله !) فوهم أن البناء ينبغي أن يعاد من جديد وربما كان مستحضرا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في امتناعه عن قومه في المدينة (17) ومن ثم توحيد الجزيرة العربية وبعدها إرسال الرسائل إلى أهم الأمصار لدعوتهم ! مع ما في ذلك من تكفير لعموم المسلمين وإخراجهم من ملة الإسلام، فربما كان هذا من الدوافع "الشرعية" للهدم وإعادة البناء، وكما توضح لك من تبرير بعض المبررين للخروج على الخلافة. فإن الأحداث والوقائع تكاد تثبت هذا الحديث، فلم يحضر الفقه السياسي ولا الوعي بالواقع الإقليمي وحال الأمة حينها، اللذان يتجاوزان الجزيرة العربية، ولا حضر فقه الخلاف مع المخالفين من كبار العلماء في الأمة فجعلوا كلهم من قبيل رعاع مشركين لا علم لهم ولا استناد شرعي.

خلاصة :
يحسب للإمام محمد بن عبد الوهاب اهتمامه بالجانب العقدي وعمله على إنكار البدع والشرك الذي انتشر حينها، ولكن المآخذ على هذه الدعوة كثيرة خاصة من ناحية السياسة الشرعية التي سلكتها وقراءتها لإشكاليات العصر وأخذها للإسلام بشموليته وإصلاحه في المجالات جميعها لا الإقتصار ببعض دون بعض ومن ثم رزوخ المؤسسة الدينية تحت توجيهات المؤسسة السياسية. فالمتتبع لمسلكها لا يكاد يجد فرقا بينها وبين الدويلات التي تأسست عقب الدولة الأموية وفي أواخر الدولة العباسية وتكاثرت وتدثرت كل واحدة منها بمذهب عقدي اتبعته حتى تجمع الناس حولها حتى كانت مغبة ذلك ان توقفت الفتوحات في العهد العباسي ولم يتفاخر في ذلك العهد إلا بفتح صقلية ومالطا وشيء من جنوب إيطاليا وبعض الأصقاع الأخرى، وكل ذلك مرده للتنازع الذي فشا وانتشر بين المسلمين على خلاف الوحدة التي كانت عليها الدولة الأموية. وكان ذلك التنازع أحد أسباب سقوط الخلافة العثمانية وما آلت إليه أوضاع المسلمين في عصرنا الحالي.
وإن ما يهمني مما عرضته أن يعلم القارئ أن سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب هي سيرة لرجل مصلح أصاب وأخطأ، وحاول النهوض بواقع الأمة فأحسن وأساء، فوجب تمييز مواطن الخلل في تلك الفترة وقراءة ما آلت إليه الأحداث من بعدها حتى ندرك تمام الإدراك أنها سيرة لإمام يجوز في حقه الخطأ والنسيان والجهل، لا سيرة نبي معصوم ! فإننا إذا اتفقنا على ذلك حق لنا أن ندرس ذلك الواقع ونتجاوزه بإصلاح مواطن الخلل فيه وقراءة تلك السيرة قراءة موضوعية تحت مجهر الناقد الذي يحقق الأحداث ويفحصها تحليلا ويعلو عن التحامل. وأما من تظل عنده سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب صنما في عقله يتوثب للدفاع عنها قبل الإحاطة بها فإن مثل هذا لا يرجى منه خيرا إن ظل على حاله. كذلك الذي يحسب أن تميّز إمام في مجال يعني لزاما تميزه في غيره فهو واهم، ومن حسب أن الثناء على إمام وإتباعه قرين الثناء عليه في كل آراءه ومسالكه سليمها وسقيمها فهو على غير بصيرة ولا هدى في هذا القول. ولاجتياز عثراتنا وجب نقد الذات ومحاسبتها، ودون ذلك الفشل واجترار الأخطاء.


(1) كتاب محاضرات للشيخ محمد الفاضل بن عاشور ص87
(2) يمكن للباحث أن يستفيد من تفصيل أكثر بالرجوع إلى كتاب محاضرات للشيخ محمد الفاضل بن عاشور، باب المذاهب الأربعة بين الأثر والنظر
(3) صفحة 12 كتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب للشيخ أحمد بن حجر آل بن علي
(4) المرجع السابق صفحة 16 كتاب محمد بن عبد الوهاب
(5) المرجع السابق الصفحة 17 و18
(6) هذا الاسم من قبيل تسمية المالكية أو الشافعية أو الأشعرية أو غير ذلك من التسميات للجماعات التي أحيلت لأسماء الأئمة أصحاب المذاهب في الفقه أو العقيدة أو الجماعات الإسلامية، فلا ضير في مثل هذه التسميات للإحالة على المذهب المقصود والاتجاه المراد.
(7) كتاب محاضرات للشيخ محمد الفاضل بن عاشور ص99
(8) من المفارقات الخروج على الخلافة العثمانية والسلطان العثماني وهو ولي الامر الأصلي والشرعي في حين تبني تحريم الخروج على ولي الأمر !
(9) رواه الإمام مسلم
(10) هذه الأحداث الثلاث على امتداد 80 سنة كاملة، تخللتها أحداث وأحداث مماثلة، كانت الدولة الوهابية خلال تلك الفترة لا تفكر إلا في الامتداد على حساب الخلافة العثمانية.
(11) كتاب حقيقة دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب لعبد الرحمان بن حماد العمر.
(12) المرجع السابق، ص45 و46
(13) المرجع السابق ص46
(14) كتاب كيف هدمت الخلافة، الشيخ عبد القديم زلوم، ص8
(15) رسالة الإمام عمر محجوب رحمه الله وهو أحد فقهاء الزيتونة وقضاتها. وقد أوردها ابن أبي ضياف في كتابه الإتحاف.
(16) كتاب محاضرات، ص100
(17) لاحظ؛ الدعوة إلى التوحيد؛ امتناع بأصحاب قوة وشوكة لنشر الدعوة؛ يثرب من قبل، أو الدرعية في بداية الدعوة الوهابية؛ الهجرة إلى يثرب، الهجرة إلى الدرعية؛ توحيد الجزيرة العربية وقبائلها؛ إرسال الرسائل ... !


dimanche 16 février 2014

1- في نقد السلفية وضرورة التجاوز : مقدمة

1- في نقد السلفية وضرورة التجاوز : مقدمة


بسم الله الرحمان الرحيم.
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيد الأنام محمد بن عبد الله.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تَعَلَّمُوا العلم لتبَاهُوا بهِ العلماء، ولا لتُمَارُوا به السفهاء، ولا تَخَيَّرُوا به المجالس، فمن فعل ذلك النار النار" (1)

إن مراجعة الذات وإصلاح الأخطاء من أوجب الواجبات على المسلمين، ولا سبيل للإصلاح إلا بمراجعة الذات وتقويم المسيرة. رافعين شعار الإنصاف نصب أعيننا، وملتحفين لحاف النظر والتحقيق، عاملين بالمنهج القويم منهج القرآن وسنة النبي المصطفى عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم. ولولا النقد والتقويم لسلكنا الطرق المنحرفة دون أن نشعر، وانحرفنا عن السبيل دون وعي أو إدراك.

والنقد يحتاج ناقدا متحريا للحق لا قادحا بالباطل، مجتهدا في إدراك الصواب لا متسرعا في إطلاق الأحكام، قد أمعن في طلب دقيق المسائل المتنازع فيها في كتب المخالفين قبل غيرهم. ويحتاج النقد أيضا حتى يفي بغرضه، إلى منقود يقبل الحق إذا ما أتى عن مخالف له، نافرا عن هوى الكبر والأنفة، مستمسكا بعرى الإنصاف وإعمال الرأي، مبتعدا عن تقديس إمام أو شيخ أو فهم ومنهج، كل ذلك بعد التسليم بأن كل مسلم قد يصيبه رذاذ خطإ في الأفكار وأن ما عليه من حق في دقيق المسائل وخفيّها إن هو إلا جزء من كل، فليس الحق إلا شرارة التدافع العقلي بين آراء تتضارب، فاللبيب من صرع هواه ثم استمسك بنورها. حتى إذا ما كان ذلك زاد إلى جزءه من الحق أجزاء أخرى، وانتقل إلى مرحلة أخرى من الجهاد لإدراك الحقيقة.

وإن أهداف النقد هباء منثور إذا ما لم يلتزم الناس بأخلاق الإسلام، من سمو أخلاقي وتناصح ومجادلة ذوي الأحلام التي لا تحمل إلا بذور إدراك الحقيقة لأهل الحوار. فإن تبيّنت الحقيقة وظهرت سعد الجميع بظهورها ناقدا ومنقودا ولم يقع في قلب الأول حب الغلبة والظهور ولا في قلب الثاني بغض الهزيمة وخذلان الحجة، وإلا فإن مداواة أمراض القلوب أولى فإنها باب لإصلاح الأفكار.

وإني لست ممن يرضى عن تكالب الألسن على القذف والشتم واللعن فتزيد البغضاء في قلوب المسلمين. وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم ليتمم مكارم الأخلاق ! وهذا من الأمراض التي طمّت وعمّت حتى في بعض ممن زعم الإقتداء بسنة النبي ونسي ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم من أجله. ولست كذلك من هواة صراع الديوك وتناطح الأكباش، مما يجري في كثير من الأحوال عند توجيه نقد أو إبلاغ رأي. فإن الواجب التبيين والنصح لا كثرة المهاترات بما وراءها من إضاعة المصالح والمنافع.

لم تزل فكرة الكتابة في هذا الموضوع تراودني منذ أكثر من عام ونصف حتى عقدت نيتي على كتابة مقالات معدودة في بعض المسائل عازما على أن اتخذها بحثا خاصا أستفيد من خلاله من البحث والرجوع إلى الكتب للنظر فيها ومراجعة ما قرأت منها فأرتّب لذلك أفكاري وأجمع ما قرأته منذ سنوات في هذا الموضوع في بحث أفرده لذلك. فأدوّن فيه رأيي في مسائل شتى وأحيل فيه سائلي من الاخوة إليه، فلا أتكبد عناء إعادة التبيين أو التحرير كل مرة. فأستفيد ويستفيد قارئه إذ أنه يُلفِي مقالا أكثر دقة وأكثر توغلا.

ما نويت أن أتجاوز الصفحات المعدودة في بادئ الأمر، فقلت لعل عشرين صفحة كافية ووافية. لكني لم أزل أكتب في الموضوع كلما وجدت فسحة من وقت وافقتها في نفسي همة للكتابة والبحث والاستقصاء حتى تجاوزت عتبة الثمانين، أعتبرها لم تبلغ إلا نصف البحث أو نحو ذلك. لذلك فإن مجموع هذا البحث الذي سأنشره في المدونة تباعا إن شاء الله قد يبلغ أن يكون كتابا في الموضوع عند تمامه.

لم أكن أنوي نشر المقالات إلا بعد إتمامها كلها ومراجعتها ثم نشرها مجموعة، ولكني وجدت صعوبة في إتمام البحث لضيق الوقت وتفرع الموضوع. فإن صلب الموضوع يتمثل في نقد الفكر السلفي في طريقته في التغيير والإصلاح وفكره السياسي، ولكن ما كتبته من مقالات ليس إلا مقدمات لا بد منها لتمهيد الحديث في المسألة. بداية من نظرة تاريخية مقتضبة، والمصطلح والأقسام، مرورا على أسباب الاختلاف فضلا عن منهجية فهم النصوص ... فالمقالات إذا مترابطة ارتباطا وثيقا وليست متفرقة المحتويات. وذاك التفرع في البحث صادف ضيقا شديدا في الوقت والحال أن الموضوع يستحق شيئا من تفرغ يسمح بالعودة للمراجع والدراسة يقع بعدهما التحرير، فقد تستحق كتابة بعض الأسطر قراءة كتاب، وقد يستحق أحد المواضيع قراءة كتب ودراسات وأبحاث. ورغم كل ذلك فإنك تجد في بعض المواضيع تفرعا شديدا وحاجة ملحة إلى مزيد البحث حتى تكاد ألا تبحث إلا في مسألة واحدة لا تبرحها. فالله نسأل السداد في القول والهداية إلى الحق.

لا أزعم أن ما سأنشره بحث ذا تخصص، ولا دراسة علمية أكاديمية مستوفية الأركان، ولا فصل الكلام وغاية القول، فقد بينت ما دفعني للكتابة أول الأمر. لكن حسبي أن يكون هذا العمل محاولة لجمع أطراف الموضوع وبحث في ثناياه. فيُعلم به محل النزاع ليدرك مؤيد الفكر السلفي موضع النقد والمآخذ فلا يرمي القول على عواهنه في من نقده ويخيل إليه جهلا ظنون لم تصح ولم تثبت. فإنك كثيرا ما تجد أحد السلفيين يتوهم أخبارا زائفة في ناقديه يعاديهم لأجلها، أو يتلقى القول على غير حقيقته وقد حفه التدليس من جوانبه فيصدقه غير محيط بالخبر علما. وكذا غيره من ناقديه، فإنك تجد فيهم من حمله البغض لهم على التحلل مما قالوه من الحق فخالفهم في الواضحات الجليات، وما هذا وذاك إلا مستحقون لمزيد البحث والتعمق وكثير من الإنصاف. وأرجو أن يجدوا في هذه المقالات ما يفيدهم.

وقد اعتمدت في الكتابة على علماء أفاضل، ومفكرين أفذاذ، ودارسين سبروا أغوار علوم شتى، فكان لهم عليّ فضل عظيم وأثر كبير. فإني قد رجعت إلى كتبهم واقتبست من أفكارهم ومما تعلمت واستفدت منهم.

أخيرا، وجب التنويه على أن المقالات التي سأنشرها قد أقوم بتعديلات فيها بعد نشرها أو إضافات إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك. ويسعدني تلقي توجيهاتكم واقتراحاتكم في التعليقات فإني سأعمل بها إذا ما وجدت فيها ما ينفعني ويرشدني في هذا البحث.

والله نسأل التوفيق والسداد.


(1): رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستردك


dimanche 9 février 2014

الشباب التونسي والجمعيات الشبابية : في معادلة المحروم زائد المهمش

فسحت الحرية التي نالها الشعب التونسي بالثورة متنفسا للشباب للإقبال على الساحة المجتمعية العامة لمحاولة التغيير والإيجابية، بعد أن كانت فترة ما قبل الثورة مقبرة لكل تحرك ولكل مبادرة ينتهي صاحبها "وراء الشمس" غير مأسوف عليه.
والتحرك الذي شهده المجتمع التونسي بعد الثورة كانت له ثمار عديدة بالنسبة للشباب على رأسها التعارف فضلا عما وراء ذلك من تعلم واستفادة وتوحيد للرؤى والأفكار الذين لا تكون نتيجتهم كلهم مجتمعين إلا إطلاق المبادرات والحملات وحتى الجمعيات.

- الشباب وتحديات الجمعيات

الجمعيات والمنظمات طريقة ممتازة لخدمة الأفكار وتنظيم التحركات في عمل جماعي منظّم، فقدها الشباب التونسي لمدة طويلة وهو حاليا يحاول إرساء أقدامه بتؤدة في هذه الساحة الجديدة نحو اكتشاف قعرها وما فيه من درر.
إلا أن العزوف لا تزال الصفة الطاغية إزاء الجمعيات، مع قلة قليلة اتسمت بالنشاط والمثابرة. ويعود سبب العزوف إلى مجموعة من الأسباب، منها الذاتية ومنها خلاف ذلك. لا شك أن من أهم الأسباب الذاتية كثرة المشاغل التي يجد الشاب التونسي نفسه في مواجهتها، من دراسة وعمل طوال أيام الأسبوع، معَ عطلةٍ أسبوعيةٍ مكتظةٍ بمشاغلِ نهايةِ الجُمُعَةِ ومستلزمات الأيام القادمة. وكذلك قلة الوعي بأهمية الجمعيات والعمل الجماعي بل وربما فقدانُ بعضٍ آخر لعقلية الإيثار، أي إيثار الغير بوقتك وجهدك ومالك لخدمتهم وتقديم الفائدة لهم.
ومن الأسباب الأخرى أيضا، عدم مبالاة من وزارة الشباب (أو وزارة الثقافة أو غيرهما من الوزارات والمسؤولين ...) بالجمعيات الشبابية والقطاع الشبابي، عدم مبالاة تامة رغم الثرثرة الكثيرة حول الشباب وأهميته في المجتمع بما يذكرنا بعام المخلوع الدولي للشباب الذي كان مناسبة جيدة لطرده من قبلهم. تصل هذه اللامبالاة إلى حدود بعيدة يتعدد خلالها الممثلون واللاعبون الرئيسيون إلا أن المسؤولين الأساسيين هم القابعين في أعلى الهرم. تتجلى لك أبسط اللامبالاة وأولها في المسائل التنظيمية الروتينية التي يُعقّدُها البعض حتى يصل بك الحال أن تنتظر الساعات الطوال من أجل ورقة تظفر بها ليرخص لك "السيد فلان" أن تنظم مجرد طاولة تعريفية بجمعيتك، حتى أنك تحس ذلك الإحساس المهين، إحساس متسول أمام باب سيد القوم أقدم على "مزيّة" إزاءك. وربما آخرها هو إشكالية التمويل، وهنا لن تحس بإحساس المتسول لأنك لن تظفر بشيء على كل حال، وفي أغلب الأحوال فإنك تدخل العمل الجمعياتي بعقلية "ماحاشتيش تعاونونا غير سيبونا نخدمو رايضين".
لكن الحيرة تعصف بك عندما ترى ملايين المليمات التي ترمى في تفاهات الأعمال الهابطة، في حين لا تنال جمعيات شبابية شيئا لتحفيزها، بل تلقى من العرقلة ما يهد الجبال ويفتت الصخر. فكيف يطلب من الشباب العمل الجمعياتي دون أرضية ملائمة لذلك ؟ وهل للجمعيات الشبابية حظ في تونس ؟ أعتقد أن الجمعيات التونسية التي كتب لها الفاعلية في الساحة هي إما الجمعيات التي حظيت بالدعم الوزاري، أو الجمعيات التي حظيت بالدعم الخارجي أو على الأقل بدعم أصحاب "الأكتاف"، أو غير ذلك من الجمعيات التي لها من التعويل الذاتي ما يسد حاجتها ويلبي متطلباتها، أما الجمعيات الشبابية التي كثيرا ما يكون أغلب منخرطيها طلبة أو تلاميذ فإن تنظمهم في جمعية إيذان لحرب على عدة مستويات، بدأ بتنظيم أوقاتهم وإلتزاماتهم ونهاية بتوفير المستحقات المطلوبة، ومستحقات كراء المقر أشدها بأسا عليهم بطبيعة الحال، فإن وفروا ذلك فبالكاد يوفرون مستحقات تحرك بسيط خلال ذلك الشهر حتى يجدوا أنفسهم يجدوا ويعملوا ليفروا فقط مستحقات المقر، وإن تركوه ضيعوا الصبغة الرسمية للجمعية.
وهذا ما يطرح التساؤل جديا إن كان المسؤولون على أدنى علم بأهمية البحث والإستقصاء في الموضوع الجمعياتي في سلبياته وطوامه وغربلة شوائب الجمعيات الفقاعية التي لا تتكاثر إلا لمجرد الحصول على رخصة أخرى فتحوز بذلك حصص الجمعيات الأخرى الناشطة (جمعيات الأعشاب الطفيلية). وترتيب الجمعيات في ميزان الحساب على حسب ما قدمت من أنشطة وما ستقدم لا على حسب الأكتاف وعقلية "شدلي معاك بلاصة".
كل هذه الإشكاليات التي ذكرنا وأخرى كثيرة لم نذكر لهي أشد أسباب عزوف الشباب عن النشاط الجمعياتي.
إن العقلية التونسية عقلية براغماتية جدا بطبعها، ومن هذا المنطلق فإن سؤال أحدهم يكون : "يا خويا آش لزني بش نزيد على مشاكلي مشاكل جمعية ؟ فك عليك يا راجل. لا يزي لا خساير وقت وجهد ولا يزي تكسير راس".
لا شك إذا أن هذا الموضوع لا يستحق مقالا واحدا، بل يستحق مقالات متعددة، وأبحاثا ودراسات لتحسين الوضعية، وكم رجوت أن تتم دراسة الموضوع ومناقشته جديا وأن أجد الإعلام التونسي يعطي لهذا الموضوع حقه. فإن في تنظيمه ربحا لمال وفير وجهد كثير ووقت ثمين نحن في أشد الحاجة إليهم، وفي الإرتقاء به كذلك إرتقاء بالمجتمع كله.

- أهمية الجمعيات

فكرت أن أكتب فقرة في أهمية الجمعيات، فوجدت هذا من قبيل تعليل أمر متفق عليه أو إرشاد إلى قاعدة مجمع عليها، فلم أجد أفضل من ذكر تعدد المجالات التي تنشط فيها الجمعيات.
فقد تكون الجمعيات يدا تضامنية تمتد إلى الفقراء والمحتاجين فتقوم بحاجتهم وتسد بعضا من احتياجاتهم فضلا على أنها تمثل طريقا مضمونة وسليمة من يد المُتَصَدّقِ إلى يد المتصدق عليه، فيتجنّب الناس شبكات التسول المنظمة برقابة الجمعيات للحالات التي تسجلها في دفاترها وتعاينها. وقد تكون الجمعيات أيضا جمعيات تنموية وإصلاحية، تدرس محاولة تحسين الجهة أو المنطقة بدراسات تقوم بها وتعدها وتتعاون فيها مع الحكومة، بل وتنفذها في أحيان أخرى إذا ما كان في مقدرة الجمعية استطاعة. وقد تكون الجمعيات جمعيات ثقافية، تطور أشكالا فنية أو تعرف بهم أو تحث الناس عليها أو غير ذلك. وقد تكون جمعيات للترجمة، فترصد أفضل ما كتب حديثا وتترجمه للعربية. وقد تكون جمعيات إسلامية أو رياضية، أو جمعيات بيئية أو غير ذلك من أصناف الجمعيات.
فضلا على كل ذلك، فإنها تصريف للأوقات في ما ينفع، ومجال لتطوير الذات، وإرشاد للطاقات في ما يُنَمِّي لا في هَدر. فهل يستحق هذا دلالة على أهمية ؟

- تجربة رابطة الشباب الرسالي أنموذجا

كانت لي تجربة في العمل الجمعياتي في عدة جمعيات، أهمها كانت في إطار رابطة الشباب الرسالي. وهي جمعية شبابية تهتم بالمجالات التربوية، الدعوية، الثقافية والاجتماعية. ورغم الصعوبات التي واجهناها في إطار هذه الجمعية إلا أن ما قدم من قبل عناصر الجمعية كان محل إعجاب عدد كبير من المتابعين وإعجاب جمعيات أخرى وإشادة بالجهد المبذول والنتائج المحصّلة. رغم أن ما تم تجسيده من أنشطة لم يكن إلا نزرا يسيرا جدا من الأفكار التي يطمح إليها الأعضاء. فالحكم على التجربة إذا ما قورن بالإمكانيات القليلة استطعنا أن نمنحه علامة حسن، وهي ذات العلامة التي تمنح إذا ما قورنت التجربة بتجارب جمعيات أخرى. لكن إذا ما وضعنا الطموحات التي بدأنا بها في كفة، وما نفذ على أرض الواقع في كفة أخرى، فإن العلامة لا تفوق حسب تقديري : رديء.
الجمعية هي جمعية إسلامية، حاولت أن تخصص مجالا حرا للشباب للنشاط، وكذلك للشابات لممارسة أنشطتهن بمكتب خاص بهن. كانت هذه الرؤية نتيجة لمسألتين اثنتين، أولاهما أن جمعية تربوية دعوية يكون الفصل فيها بين الجنسين أفضل من الجمع تناسقا مع المرجعية الإسلامية للجمعية، وثانيهما هو إتاحة المجال للشباب أو الشابات لعمل مستقل يتوافق مع خصوصياتهم لممارسة أنشطتهم بأكثر أريحية، خاصة أن من بين الأنشطة الأنشطة المسجدية والمخيمات واللقاءات والسهرات الإيمانية وغير ذلك من الأنشطة التي يفضل في بعضها الفصل وفي البعض الآخر يتوجب ذلك فيها خاصة أن الشريحة الناشطة مقتصرة على الشباب. مع الجمع والتنسيق في الأنشطة  العامة مثل الندوات العامة.
إلا أنني وصلت لقناعة مفادها أن تكريس الفصل في إدارة الأنشطة أمر يعيق العمل ولا يقدم أي نفع يذكر، فضلا أن الفصل ينبغي ألا يكون القاعدة التي يسار عليها بل ينبغي أن تحدد الأنشطة التي يتوجب فيها وتقام على ذلك الأساس، مع جمع في بقية الأنشطة. وسبب ذلك أن قلة الزاد البشري للشباب العامل والفاعل في الجمعيات يوجب الجمع حتى في الأنشطة التي يفضل فيها الفصل. فهي إذا إشكالية تنظيمية داخلية. لكنني أحسب أن إعاقتها للعمل كانت بنسبة كبيرة جدا. وطبعا فإن هذا الأمر لا يحسم على أساس سؤال أن الفصل سيء أو جيد ويقطع بذلك في مختلف الحالات، ولكن يحسم فيه بناء على الاعتبارات المتاحة بين أيدينا. فنقول إذا أن خيار الفصل ضمن الاعتبارات التي عايشناها في تلك الفترة كان له نسبة كبيرة في إعاقة العمل ولم يكن في خدمة المشروع الذي طمحنا إليه، فقد كان قرارا خاطئا. (رغم أني كنت من مناصريه)

من الإشكاليات الأخرى كذلك، زيادة على قلة عدد الأعضاء وقصر التجربة وضعف الإمكانيات وأسباب غير ذاتية تحدثنا عنها أعلاه، عدم التخصصية في تطبيق البرامج. ذلك أن أي جمعية تهدف إلى العمل في مجالات متعددة، وتقوم بأنشطة مترامية الأطراف، من ندوات عامة إلى سهرات ولقاءات إيمانية إلى مخيمات ودورات تكوينية ومحاضرات مسجدية ومجال مخصص للكتاب مناقشة وقراءة وإصدارا، وغير ذلك من الأنشطة الأخرى المتفرقة. إن مثل هذه الجمعيات إن لم يكن عملها مقسما على مكاتب متعددة كل يشغر مجالا ويقوم على لبنة من هذا البناء فإنها لا محالة سائرة إلى استنزاف عدد قليل من الأعضاء إلى حد الوصول إلى الإنحدار في العطاء وأخيرا الملل والخمول. فكان من الأحرى، عوض دخول الساحة بمحاولة تطبيق جميع الأفكار بعدد قليل من الأعضاء، أن يهتم بمجال معين، يعمل في تفعيله والنشاط فيه دوريا، ثم بعد ذلك محاولة بعث مكتب آخر في مجال أنشطة أخرى، وهكذا بتوسع. وكل هذا لا يتم إلا إذا أخذنا بالإعتبار الأعضاء الفاعلة حقا، فإن الأعضاء تنقسم إلى مجموعات : فمنهم من ينتظر الإستفادة من الجمعية، وهذا لا يقوم به عمل، فهو في مقام المتفرج المشارك أحيانا. ومنهم كثير الكلام قليل الفعل، وهذا في حكم سابقه. ومنهم كذلك من يقدم على المواقع ليشغرها بالفراغ، وهذا هو الغائب بالحضور. ومنهم من إذا كلف بعمل أبدع فيه، ولا يعوّل إلا على هذا الأخير. وهذا نسبته في الشباب التونسي مقارنة بكل ما سبق، قليل في قليل في قليل في السواد الكثير. وتعلم أيها القارئ أن هذا الكلام حق، لا مجرد قذف في أهلية الشباب وعطاءهم.

كذلك، فإن التقوقع الذي وقعت فيه الجمعية كان سببا آخر سلبيا. ذلك أن التصور الذي انطلقنا منه هو تكوين مجموعة من أبناء المشروع الفكري للجمعية حتى تمتلئ بهم ولا تسير نحو احتواءها وتحويل وجهتها. ورغم وجاهة الفكرة لجمع عناصر متجانسة فكريا للعمل في رحاب الجمعية، خاصة أن الانسجام الفكري كان هاما فيها بسبب تعدد محاور عمل الجمعية، إلا أن المسير في هذا التوجه مدة طويلة كان سببا سلبيا لفسح المجال للشباب للتعرف على الجمعية بطرق منفتحة أكثر. فكأن هاجس الاختراق أو الخشية من أن يصطبغ جسم الجمعية الداخلي بالحوارات العقيمة والمهاترات التافهة أثر على التواصل مع الآخر، فهي معادلة صعبة وجب النظر فيها إلى حدين متابعدين أولهما الحفاظ على عناصر متزنة تهيؤ مجالا روحانيا لنشاط مسجدي أو لقاء إيماني بعيدا عن المهاترات والحفاظ على هوية الجمعية وتجانسها وثانيهما التواصل مع الآخر وتوسيع النواة. فأعتقد ان الكفة التي خرجنا بها كانت مائلة أكثر مما ينبغي إلى طرف التقوقع على الذات، فإن كان الأمر محدودا لفترة من الزمن فإنه مكروه إذا طال.

ورغم كثرة المآخذ والانتقادات التي يمكن أن تكال من مختلف الأعضاء، فتختلف وتتعدد وتتكاثر كلما زدنا في طول الحوار، إلا أنني أعتبر أن أهم إشكالية على الإطلاق هي تعدد الجمعيات الشبابية التي تتشارك في الأهداف ذاتها تقريبا، وقلة التنسيق بينهم.

- ترشيد التجربة الجمعياتية

فتجد في أحيان كثيرة جمعيات يمكن أن تندمج في جمعية واحدة فتريح وتستريح، تريح الناس من كثرتها وتستريح من العمل المنفصل الذي يحتاج أكثر مجهود وأكثر التزامات. وهذا دليل على غياب الحوار بين هذه الجمعيات وتوسع عقلية الفردانية على حساب عقلية جمع الشتات. إن الجمعيات العرجاء لن تستطيع التغيير، وليس الوقت الحالي وقت جمعيات همها نشاط أو اثنين خلال عام أو نصف عام. فإن لم يكن أصحاب هذه الجمعيات يفكرون بعقلية النشاط الدوري المنظم والمستمر، فينبغي أن يعلموا أن عملهم فاشل لا يرتقي للمأمول. ولا يمكن أن يصلوا إلى هذه المرتبة إلا إذا كان همهم قبل اسم الجمعية وصفتها وأصحابها ثمرة العمل والهدف.

إنك تجد كثيرا من الجمعيات التي تضع على جدول أعمالها تنظيم ندوات دورية، إلا أنها لا تضع على جدول أعمالها الاتصال بالجمعيات الأخرى للتنسيق على الأقل في هذا الموضوع. فإن تنظيم ندوات (محكمة وكبيرة ولها صدى) تحتاج لعمل دؤوب وحرص كبير وتمويل ذا شأن، وإذا ما أريد أن يكون الأمر دوريا فإن المسألة تصبح محتاجة لمكتب منفرد يحرص على تنفيذها وأكثر جهد. ولو تواصلت الجمعيات المهتمة بهذا الشأن في هذا الموضوع بين بعضها البعض وتمخض عن تواصلها تنسيقية في مسائل معينة تنظمها لكان الوضع أفضل.

مثال آخر لهذا الموضوع، وهو حول مسألة الكتاب، أو إن شئت المكتبة. فإن الفكرة تروق لجمعيات كثيرة، وكل واحدة منها تتسابق لجمع الكتب وإقامة مكتبة في مقرها عسى أن تجد إقبالا من الشباب لتشهد حركية في مقرها. والكتب ذات سعر مرتفع، ومال الجمعيات قليل، والطرق لتحصيلها وعرة، والجمعيات التي تسلك هذا المسلك كثيرة ومتعددة. فتفرقت الجهود وتشعبت ولم يهتدي البنان ليشير إلى مكتبة واحدة من هاته المكاتب الكثيرة ليصنفها كمرجع يعود إليه الباحث. ولم نجد دعوة واحدة بمحاولة توحيد الجهود بعيدا عن سقف أسماء الجمعيات الفلانية أو العلانية، فتكون تحت حملة لجمعيات متعددة مثلا، وتحيد عن مقرات الجمعيات لتكون في مقر مكتبة عمومية. فتحل إشكالية المقر وضبط الزائر بوقت، وتكون فرصة لتوسيع إحدى المكتبات العمومية، ويضاف إلى زادها زاد من الكتب الجديدة الحديثة، وفرصة أفضل لتوحيد الجهود في عمل مجد، عوض ان ينال الغبار من الكتب فوق رفوف مكتبات لا تطالها الأيدي في مقرات مغلقة غالب الوقت.

قد سعدت جدا سابقا بخبر مفاده أن إحدى الجمعيات تسعى لكراء مقر كبير يكون مجمعا لجمعيات كثيرة ومقرا لها، فتكون خلية نحل، لكن الفكرة سرعان ما آلت للفشل وعلى ما اذكر فأسباب ذلك تنظيمية وداخلية في جسم تلكم الجمعية. إلا أن الفكرة لا تزال ترن في أذني. مقر واحد لجمعيات عديدة تشترك فيه يكون شاسعا وجامعا ولمَ لا مقرا لمكتبة مشتركة فضلا عما سيوفره من أرضية لعمل مشترك. إلا أن مثل هذه الأفكار تحتاج لتنسيقيات ثابتة بين الجمعيات، تنسيقيات بين جمعيات جدية لا جمعيات فلكلورية تلوك القديم، جمعيات متحررة من الإشكاليات الداخلية التي تشيب من هولها رؤوس الولدان والعناصر المعرقلة الذين كثيرا ما سمعنا عن شطحاتهم. بل وربما كل هذه الجمعيات في حاجة إلى جمعية "تنموية" لفائدة الجمعيات الصغيرة والمتوسطة، تجمع رجال أعمال ومؤسسات لتشجيع هؤلاء والدفع ببرامجهم نحو التحقق فتكون ملجأ لهم إذا ما أرادوا التمويل يكتسبوه ببرامجهم وعملهم لا بولاءهم لفلان أو علان (بما أننا ابتلينا بوزارات دعمها معلوم لمن سيصرف مسبقا).

أعتقد ألا حل للجمعيات التونسية، إذا أرادت أن تعول على نفسها فتهتدي إلى التغيير، إلا بتفعيل العمل المشترك، والبرامج المشتركة، وليت كل نشاط يكون دوريا (نصف أسبوعي أو شهري) بمكتب موسع ومنفصل تشارك فيه جمعيات متعددة، فيجد المتابع أعمالا دورية يهتدى إليها وتلقى حظها الإعلامي أكثر لدى الشباب ويكون لها صدى أكبر، وإلا فإن عدم الإرتقاء بالعمل الجمعياتي منذر بانحدار إلى السفح.