samedi 15 mars 2014

06- حول منهجية فهم النصوص الشرعية : قراءة في منهجية فهم السلفية

في نقد السلفية وضرورة التجاوز

06- حول منهجية فهم النصوص الشرعية
قراءة في منهجية فهم السلفية


منهجية الفهم وتطورها :

بدأت الحضارة الإسلامية تتوسع شيئا فشيئا من شبه الجزيرة العربية إلى أمصار أخرى فضمت الهند وتراثها ومصر والحضارات التي تعاقبت عليها وبلاد ما بين النهرين وثقافاتها وغيرهم، حتى امتدت فتوحات المسلمين خلال قرن واحد لتفوق ما وصلت له الحضارة الرومانية خلال ثمانية قرون. وكانت الحرية الفكرية التي اتاحها المسلمون لغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى الحاضن الأبرز لحوارات كثيرة ومحاججات طويلة أفضت إلى قناعة مفادها أن الإكتفاء بالإحتجاج بالنصوص عند المخالفين لا يوفي بالحاجة فضلا أن الواقع غير واقع الجزيرة العربية التي تميزها طبيعة جافة واجتهادات واضحة من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي عايش ذلك الواقع وقدم المثال والأنموذج الذي يمكن أن يسير على نهجه أهل البلد من بعده خاصة أن الجزيرة العربية لم تشهد تطورا هاما على جميع الأصعدة والمستويات إلا في وقت قريب خلافا لما كان عليه الحال في مصر والشام وبلاد فارس وشمال إفريقيا والأندلس زمن الفتح وظهور مسائل حديثة وجب تأصيلها شرعيا. واستجابة لهذا التحدي ظهرت إشكاليات في الفكر الإسلامي حاول الفقهاء الإجابة عليها كحدود العلاقة بين العقل والنقل ومسألة التقبيح والتحسين وتفصيلات في الأدلة النقلية ومراتبها واستنباط القواعد من النصوص للقياس وغير ذلك.

فكان ذلك هو السبب الأبرز لظهور مدارس في أقصى اليمين بالنسبة لتيارات الفكر الإسلامي حينها سميت بالعقلية أحدثت القواعد نصرة لمنهجها وأخرى ظاهرية في أقصى اليسار تأخذ بظاهر النصوص. فسارت هذه الأخيرة على التصور البسيط وكانت بذرة السلفية الحديثة وحركتها الأم، فالقرآن والسنة المصدرين الأساسيين للدين مع تضييق شديد في بقية المصادر كالقياس وغلق لباب التأويل والتفسير والنظرة المقاصدية التي لم تظهر حينها كعلم وقواعد متبعة فكانت المواقف المستندة إلى هذا العلم مجرد أقوال لا تستند على منهجية أصولية واضحة ورؤية فكرية ناضجة. وبين الفريقين آخرون يقولون بالقياس على اختلاف في الأخذ به، ومن هؤلاء ظهر علم المقاصد مع الإمام الشاطبي رحمه الله في ما بعد والذي كان مبنيا أساسا على علم أصول الفقه، وكان علم المقاصد ذروة ما وصلت إليه الثروة الفقهية والقانونية التي دونها المسلمون منذ ظهور علم الأصول مع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في كتابه الأم.

منهجية الفهم عند التيار السلفي :

لقد ضيقت المدرسة الظاهرية قواعد فقهية أخرى كقاعدة أن الحكم يدور مع علته وما إلى ذلك، وتطور عندها هاجس الفتنة وتوسعت قواعد من قبيل "سد باب الذرائع" و"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح" وأطلقت دون ضبط وتفصيل على مصراعيها. وهذه المنهجية ككل قاصرة تجعل من النص الشرعي مادة تنزّل دون ضوابط وشروط وفهم مبني على أصول وقواعد بل هو الفهم البسيط الذي يجد انتشارا واسعا بين عوام الناس ليسر تطبيقه والقول به ولسهولته وبساطة طريقته فلا يحتاج إلا للنص المستند إليه وفهم باللغة العربية، وكثيرا ما يكون بسيطا لا يراعي المجاز في العربية، ثم يطبق النص وتبنى عليه النظريات والأحكام. وإذا كان ذلك كذلك فلا تعجب إذا وجدت الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله تعالى يناقش في كتابه اللامذهبية ويتكبد عناء الرد على قول أحد مدعي العلم ممن يقول "أن الإسلام ليس أكثر من أحكام معدودة يسيرة يفهمها أي أعرابي أو مسلم" (1) ثم يقول "وتحصيل هذه الطريقة، أي الاجتهاد، سهل لا يحتاج لأكثر من الموطأ والصحيحين وسنن أبي داوود وجامع الترمذي والنسائي وهذه الكتب معروفة مشهورة يمكن تحصيلها في أقرب مدة فعليك بمعرفة ذلك وإذا لم تعرف أنت ذلك وسبقك إخوانك وفهمك باللسان الذي أنت تعرفه لم يبق لك من عذر." (2). وإن تراجعوا عن مثل هذه التصريحات مؤخرا، فإن طريقتهم في الاستدلال عمليا لا تتجاوز ما ذكره الخجندي صاحب الكلام في ما سبق.

يقول الدكتور محمد عمارة في كتابه تيارات الفكر الإسلامي : "لقد صاغ [الإمام] ابن حنبل [رحمه الله] منهج السلفية النصوصي، الذي يأخذ الإسلام، أصولا وفروعا، من النصوص والمأثورات، وذلك في مواجهة منهج متكلمي المعتزلة، الذين كان للعقل والتأويل شأن عظيم في المنهج الذي يأخذوا بواسطته الإسلام. ولقد بلغ من اتباع ابن حنبل للنصوص والمأثورات، ولها وحدها، الحد الذي جعله لا يرجح بالرأي أو العقل أو القياس، مأثورة على أخرى عندما تتعدد وتتضارب المأثورات في الأمر الواحد والقضية الواحدة، فكان يفتي بالحكمين المختلفين لأن لديه مأثورتين مختلفتان في الموضوع. وبعبارة [الإمام] ابن القيم [رحمه الله] فإن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عن ابن حنبل في المسألة روايتان !." (3)

لقد كانت المنهجية التي صاغها الإمام ابن حنبل في مواجهته للمعتزلة كالآتي : الأخذ بالنصوص كما هي على ظاهرها، إذا لم يجد فيها ما يقضي به نظر في الموروث من أقوال الصحابة رضوان الله عليهم، أما إذا اختلف الصحابة تخيّر من أقوالهم، فإن لم يجد أخذ بالمرسل والحديث الضعيف، وفي المرحلة الأخيرة إذا تعذر عليه كل ذلك عمل بالقياس للضرورة لا غير. (4) فأضفت هذه الطريقة قداسة على أخبار الماضي دون نظر وتحقيق، وكلما كان الحديث أقرب لعهد الرسول صلى الله عليه وسلم كلما كان إلى الحق أقرب، وتجد ذلك واضحا بينا لا غبار عليه في المعتمد من ذم آراء الخلف ومدح آراء السلف رغم أن من آراء السلف ومما روي عن الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه "لا تنظر إِلى من قال، وانظر إلى ما قال" ومن الأحاديث (الضعيفة) المروية "الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" (5) ومما يصدق هذا من الآيات كثير لا يحصى كقوله تعالى "لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" (6) وما ذكره الله تعالى في من جاءه الحق فنبذه زاعما أنه وجد آباءه على أمة وهو على آثارهم من المقتدين والمهتدين، فذم الله منهجهم وحثهم على التدبر والتفكر واستنكر عدم تعقلهم وإتباعهم الأعمى حتى ذم بني إسرائيل في ذلك وجعل مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا. وإن كان الإمام أحمد قد حصر الآراء في الصحابة رضوان الله عليهم فإن من جاء بعد الإمام أحمد قد زاد الحقبة الزمنية لتشمل الثلاث قرون الأولى. و"هكذا، على هذا النحو أضفت الحركة السلفية القداسة على النصوص والمأثورات، ووقف منهجها النصوصي عند هذه النصوص والمأثورات، بل لقد وقف عند ظواهرها، عندما رفض أن يعمل فيها الرأي أو الاجتهاد أو التأويل أو القياس، حتى عندما كانت تتعارض وتتناقض نصوص هذه المأثورات ومضامينها !" (7) كما تم تحديد الرأي في طريقين، الطريق الأول هو ما تلقته الأمة خلفا عن سلف بالقبول، وهو الإجماع، والثاني هو الرأي المروي عن الذين شاهدوا التنزيل فيكون الرأي المفسر للقرآن الكريم، وشدد على غير ذلك، بمثل ما روي من مأثورات من قبيل "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"، "الحديث الضعيف أحب إلي من الرأي"، "ضعيف الحديث أقوى من الرأي" (8)، "الرسول قد توفى وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر للأمة منه علما" ...

فلك أن تستطلع أحوال المجتمع العلمي الذي تنتشر فيه هذه المنهجية وتتمكن من رؤوس العلم فيه، هل يكون للاجتهاد اعتبار عندهم بعد ذلك ؟! أو تكون لهم جرأة على مخالفتهم للسلف وهم مجرد خلف ؟! فلا يكون حينها الإجتهاد إلا عملية اجترار لما تم تصنيفه وتدوينه، وإن لم يكن هذا إغلاق لباب الإجتهاد فما هو الإجتهاد إذا ! وربما تكون حينها الحركة العلمية مجرد تغيير في تبويب الكتب وعناوينها وترتيب فصولها مع شيء من التعليق وإضافة الحواشي، وإذا ما أردنا الثورة فإننا ننتقل من رأي أحد السلف، إلى رأي آخر لأحد السلف ! وهذا غاية المنى حينها ولا نبرح تقليب ما بين أيدينا من كتب وما حوته من آراء فقهية إلى أبد الدهر، طالما أن السلف لم يتركوا شاردة ولا واردة إلا وقد أوتوا منها علما ! ولا بأس أن نتغاضى أن الفقه معناه الفهم، ولنجعل من ذلك الفهم في حد ذاته التقديس كله !

ولك أن تدرك بعد هذه اللفتة أن الدعوة السلفية الحديثة تترنح بين محورين لا تكاد ترتكز على أحدهما حتى تنتقل إلى الآخر عند الضرورة، فهي حينا دعوة إلى المراجع الأصلية دون غيرها، كتاب وسنة، دعوة إلى الأصل بما ذكر من أقوال من قبيل "إذا صح الحديث فهو مذهبي" وغير ذلك مما يقع في هذا المعنى من أن العبرة ليست بأقوال من سلف وإنما في الأدلة وما ارتكزت عليه من أرضية في ميزان الشرع (أي كتابا وسنة وما انبثق عنهما من أصول وأحكام ومقاصد وعلوم شرعية وآلات فهم)، وهي أحيانا أخرى دعوة إلى تضييق عملية الإجتهاد وحصرها في آراء سلف الأمة دون غيرها وحصر الفقه (الفهم) على ما حوته الكتب ورفض دون ذلك (قبل التطرق إلى الأدلة، فإن الرفض هنا مبدئي لعملية الإجتهاد لا رفضا عارضا للدليل، فلو كنت أصوليا صاحب دليل أقوى وأدق فإن ما عندك مرفوض). وفي هذا الجانب يُستشهد بما ورثته الظاهرية من أقوال داعمة في هذا المنحى من أن خير القرون هي القرون الثلاث الأولى فتزعم أن ذلك ليست أفضلية إيمان وتقوى وعلم، دون إطلاق وضم لكل قول ودفع لكل ما وراءه ورفضا لكل ما بعد تلك القرون، فتُلخّص حياة الأمة وما اكتسبته من علوم في قرون ثلاث من حيث اكتساب العلم وأدوات التحليل وطرق الإستدلال، فتفقدك هذه الأقوال كل ما عرفته من أن العلم عملية تراكمية يساهم فيها الزمن كما يساهم فيها تطور الحركة العلمية والفكرية فضلا أن للمجتهد شروطا إذا ظفر بها جاز له الإجتهاد في أي عصر وصقع ! (9)

وهذا الحاجز الأول فقد يرد بعضهم الآية والحديث لقول مرجوح مأثور، فلا تسأل إذا عن رد الأمور العقلية القطعية لحديث ضعيف كما رأيت من استعداد لذلك في بعض ما نقلت سابقا.

يقول الدكتور محمد عمارة : "في أمور الدين لا الدنيا يكاد يتفق علماء الإسلام على أنه لا مجال للرأي أو الاجتهاد إذا ما وجدت النصوص، ولكن من عدا السلفية يشترطون في هذه النصوص، وحتى يمتنع بوجودها الرأي والاجتهاد، يشترطون فيها أن تكون قطعية الدلالة قطعية الثبوت بمعنى أن تكون دلالتها واضحة قاطعة، لا تقبل الاحتمالات، وأن يكون ثبوتها قطعيا، من حيث الرواية، والأكثرون يشترطون في النصوص الدالة على أمور إعتقادية أن تكون متواترة، ولا يقبلون الإلزام في هذا الباب بأحاديث الآحاد. أما إذا لم تكن النصوص قطعية الدلالة قطعية الثبوت فإنهم، غير السلفية، لا يرون وجودها مانعا من إعمال الرأي فيها والاجتهاد معها. فالاجتهاد مع النصوص في هذه الحالات أمر وارد، بل ومقرر عند غير السلفيين من العلماء." (10)

فيظهر لك مما تقدم أن إنكار القياس والرأي أو الحيز الضيق الذي أخذوه في هذا المنهج الظاهري وجعله في آخر المراتب بل وجعل ما أفاده من قبيل أدنى درجات الظن الذي يجوز تقديم الأحاديث الضعيفة عليه يعتبر في حد ذاته إنكارا للحكمة في التشريع والعلة في الأحكام، وردا لقواعد كثيرة من علم أصول الفقه لا تكاد تحصى ولا تعد، بل لعلم المقاصد ككل، فالأمر مرتبط. ومن هنا يظهر لك ضرورة الوعي بمقاصد الشريعة وضرورة فهم الأحكام ومن ثم تنزيلها وتطبيقها في كنف أصول الفقه ومقاصد الشرع، فكثيرا ما يظن البعض أن الدليل أقوى من الأصل في حين أن الأصل قد شيد على عدد من الأدلة تكون في بعض الأحيان متواترة ومتفق عليها لا تنازع فيها، فما بالك بالمقاصد الشرعية وهي الأقوى والتي تندرج القواعد والأصول في رحابها !  فمن اقتنع بفساد تلك المنهجية في الفهم لزمه إذا أن يقول بفساد القول بأن الشريعة والمصلحة متنافرتان، فالشريعة جاءت لتحقيق المصالح وعليه فلا تعارض بين الشريعة وبين ما تحيل إليه الفطرة من جانب والأدلة العقلية الصحيحة الصريحة من جانب آخر فكلهم في مآل واحد.




(1): صفحة 63 كتاب اللامذهبية صفحة 63 للإمام محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله
(2): المرجع السابق صفحة 19 و20
(3): صفحة 137،138 من كتاب تيارات الفكر الإسلامي، للدكتور محمد عمارة، وهذا الأخير مرجع رئيس في هذا الفصل فقد استفدت منه كثيرا، فأرجو الرجوع إليه للإستفادة أكثر.
(4): المرجع السابق ص138
(5): رواه الترمذي وضعفه، وغيره بغير لفظه.
(6): سورة المائدة
(7): محمد عمارة، تيارات الفكر الإسلامي، صفحة 139
(8): لا يهمني في هذا الصدد ما أثير من أن الحديث الضعيف المقصود به هو الحديث الحسن أو اختلاف مصطلحات المحدثين قديما وحديثا، أو قبل الإمام الترمذي وبعده إن أردنا الدقة، ولكن ما يهمني هو الإشارة إلى أن مثل هذه الأقوال مثلت خلفية ذهنية في هذا الفكر فمن خلال مجموع هذه العبارات تصنع الرؤية الفكرية والتوجه الأصولي لجماعة ما. إذا ما يهمنا بالأساس هو الأثر الناتج عن مجموع هذه الأقوال في التحذير من الرأي والأخذ به بتوسع يقرب للإطلاق. وتجدر الإشارة إلى أن الشيخ الطاهر بن عاشور قد استبعد أن يكون مثل هذا الكلام عن الإمام احمد بن حنبل بل إنه ذهب للـ"جزم" بأنه لم يصدر عنه تنزيها للإمام من مثل هذا القول. وهذا الكلام في الصفحة 25 من طبعة مكتبة الاستقامة وغير موجود في طبعة الشركة التونسية.
(9): لمن يريد أن يتبين أكثر في الفرق بين هذين الجناحين اللذان يُستعملان في منهجية التيار السلفي فبإمكانه أن يعود لكتاب اللامذهبية للشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله والذي رد فيه على الثورة التي دعا إليها أحد "مشايخ" السلفية ممن دافع عنهم الإمام الألباني رحمه الله وغفر له على المذاهب الأربعة وأئمتها (ثورة على أئمة من أهل القرون الثلاث الأولى ؟!) فهذا أحد الإخلالات المنهجية !
(10): كتاب تيارات الفكر الإسلامي ص139

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.