dimanche 16 novembre 2014

قراءة في آليات الفعل السياسي لحركة النهضة وأولوياتها خلال المرحلة المقبلة

هل فشل "الإسلام السياسي" نهائيا ونشيع اليوم جثمانه إلى مثواه الأخير ؟ سؤال أقرب إلى الدراما المبتذلة يطرح على الساحة بعد الانتخابات التونسية يجيب عليه كثيرون من ضيقي الأفق بكل استبشار بـ"نعم" حازمة مباشرة، ذلك أنهم بنوا خلاصتهم تلك على لبنات مهتزة.
أولاهن، عدم إحاطتهم الكافية بما يعنيه التداول السلمي على السلطة وما يترتب عن ذلك ضرورة من مد وجزر في شعبية الأحزاب، وتغيّر الأوزان السياسية لاعتبارات عديدة إثر كل انتخابات. ومنهم من أحاط علما بهذه المعاني وخبرها بيد أنه تشبع بعقلية الاستئصال فلا تعني السلطة عنده إلا اجتثاث المخالف.

أما اللبنة الثانية فهي عدم اعتبارهم من عودة التجمع المنحل بعد أن قُبِرَ، وذلك من أوسع الأبواب السياسية بانتخابات ديمقراطية لا يكاد يُطعن فيها. فإمكانية العودة من تحت الرماد سمة للأحزاب الكبرى سواء بشعبيتها كما هو الحال مع حركة النهضة بعد ثلاث وعشرون سنة من الغياب أو بالقوة المالية والإعلامية والأذرع المبثوثة في أعماق الدولة كحزب التجمع المنحل.

أما اللبنة الثالثة فهي قصر نظرهم بزعمهم أن الأفكار يمكن لها أن تأفل بخسارة انتخابات. أإذا كانت السجون والتشريد والإقصاء لم تفلح في ذلك على مدار العقود أتنجح انتخابات في ذلك ! فضلا عن لبنات أخرى لا حاجة لاستقرائها في ثنايا هذا المقال فليس ذلك هدفي من هذه البسطة ولكن حسبي أن أبين أن السؤال المطروح لا يعدو أن يكون محض هذيان وأضغاث أحلام. بل على العكس تماما بالنسبة للإسلاميين في تونس، فإن الفترة الحالية التي سيقضوها خارج السلطة هي أهم فترة على الإطلاق في تاريخ الحركة الإسلامية التونسية وهي التي ستمهد لإقلاع حضاري إن توفر شرطان أساسيان اثنان. الأول ذاتي، وذلك بحسن التصرف وإدارة المرحلة والاجتهاد وكسب ساحات جديدة أفقيا في المجتمع. وثانيهما خارجي لا ينفصل عن الشرط الأول في جزء منه عند التحقيق، وهو تواصل مناخ الحريات وسيادة الديمقراطية في الانتخابات القادمة دون تزييف لها ولا تدليس.

قراءة في آليات الفعل السياسي والاجتماعي لحركة النهضة
بعد غياب تام لأكثر من عقدين واجتثاث كلي بكل ما تحمله الكلمة من معنى تجد حركة النهضة نفسها مجردة من جميع آليات الفعل وأدوات الضغط والتغيير، كذا حال أبنائها بمكاسبهم مقارنة بأترابهم إذا ما تؤخذ في المقياس حالتهم الاجتماعية، فهؤلاء يسعون لجبر الضرر الذي لحقهم من إقصائهم وإبعادهم عن أعمالهم لعقدين وهرسلتهم ومحاصرتهم وأولئك اكتسبوا ما يعلوا بحالتهم الاجتماعية، خاصة إن كانوا من المقتاتين على عتبات النظام السابق.

بعد الثورة مباشرة وجدت حركة النهضة نفسها أمام تحديات جمة أبرزها لملمة الشتات والتنظم وإعادة إحياء الحركة بالتوازي مع الدخول في ماراطون سياسي بدأ منذ القصبة واحد إلى حين الاستعداد للانتخابات بالحملة الانتخابية والتهيؤ لها. واشتد الحال صعوبة بعد الانتخابات بتولي الحركة ثلاث مهام بالتوازي لا تقل إحداها عن الأخرى أهمية وهم : المهمة الأولى هي كل ما يشمل العمل الحكومي، والثانية كل ما يشمل العمل النيابي في المجلس التأسيسي، والثالثة كل ما يتعلق بالبيت الداخلي أو المجالات الخارجية كالعمل النقابي والاجتماعي الدعوي وغير ذلك. فتشتت بذلك أبناء الحركة بين محاور كثيرة.

لا شك إذا في حال التقييم الموضوعي نجد أن المردود الذي يُنتظر في الظفر بآليات التغيير شحيح. وهو فعلا ما خرجت به حركة النهضة حاليا.
فعلى المستوى الداخلي من حيث تقييم المكاتب الحزبية محليا وجهويا للحركة فإن حركيتها في تناقص مستمر منذ أن فشلت الحركة في استيعاب الطاقات الوافدة عليها بعيد الثورة وعجزت عن تصريفهم نحو الانتاج والفاعلية. والإشكالية تظهر أكثر في القطاع الشبابي الذي شهد تهميشا وإهمالا دفع إلى تناقص حاد لأعداد الشباب النهضوي تولد عنه تدريجيا لا مبالاة عكسية من قطاع واسع من الشباب تجاه الحركة. ومما دعم هذه الوضعية وثبتها عدم الحسم بجدية في قضايا عديدة متعلقة بالشباب وعدم إطلاق زمام المبادرة لهم واعطائهم المنابر الحرة لكشف طاقاتهم بالعمل بتنظم صلب جسم الحركة حتى لا يخرج عن نطاقها فيقع التشتت. وكذا كان طغيان المسائل الخارجية على الإصلاح الداخلي لجسم الحركة من العوامل السلبية التي تولد عنها بطء وتقاعس شديدين.

أما على المستوى الاجتماعي فقد أنشأ أبناء الحركة الإسلامية حزاما من الجمعيات رغم أهميتها وما قدمته للتونسي بعد الثورة من خدمات إلا أنها لا تبلغ أن تكون في مستوى المأمول. فلا المجال الخيري، ولا المجال الثقافي الفكري، ولا التنموي الإصلاحي، ولا الدعوي الديني، تم اشباعهم عملا على المستوى المطلوب. فالثغرات فيها لا تزال واضحة للعيان خاصة إذا تناولنا المسألة بنظرة شاملة ونقدية من جانب التغطية الكاملة لكافة مناطق الجمهورية، والنقص فيها لا يزال باد. ولا يصل حزام الجمعيات هذا ليشكل عامل ضغط بأي شكل من الأشكال ذلك أن كل الحزام المدني بفروعه متعدد الرؤوس بكثرة فلا تكاد تجد جسما فيها مؤثرا في محيطه وفي غير أعضائه. ومن المعرّات كذلك، أن هواية الإسلاميين الأولى العمل الخيري ومساعدة الفقراء وتقديم يد العون للمحتاجين وأضراب هذه الأعمال، ورغم ما لذلك من الأهمية وهو مما يحسب لهم بشدة، ولكن في الآن ذاته يضيعون تماما الجمعيات القريبة من صناع القرار الوطني والإقليمي والدولي، تلك التي تبني علاقات وثيقة مع أهم المفاتيح كالجمعيات الحقوقية والإقتصادية خاصة وغيرهما ممن استأثر بهم غير الإسلاميون. فهذا المجال هو الآخر يعتبر دون المطلوب ويحتاج لتطوير أكثر.

لا يخفى أيضا النقص في المجال الإعلامي، فإن رصيد الإسلاميين فيه كان صفرا إلا من بعض الأقلام التي تكتب هنا وهناك في بعض الصحف الأسبوعية المطاردة بشدة والمضيق عليها كالموقف لسان الحزب التقدمي الديمقراطي. ومع فتح المجال لإنشاء الإعلام البصري والسمعي والمرئي، أخذ الإسلاميون حظهم وبادروا بالإنشاء وسبر الأغوار الجديدة مع إيمانهم التام بأن الإعلام الحزبي لا سبيل لنجاحه والواجب توفير إعلام يجمع بين الاستقلالية والحيادية والإبداع فظهرت العديد من المحاولات الجادة في ذلك بنجاح متفاوت بينها. ولكن نسبة تأثيرها مقارنة بغيرها ضعيفة، وطريقتها تحتاج لتطوير وابداع، وشخصياتها الإعلامية تحتاج لصناعة وبناء متواصل حثيث. فالأمر يحتاج لصبر وطول نفس وكثير من الحرفية والابداع لنيل ثقة المتابع ورضاه.

العديد من المجالات الأخرى التي يمكن أن نجمل القول فيها بالتقييم ذاته. سواء تواجد الإسلاميين في النقابات. العمل الطلابي بمختلف فروعه في الجامعات الذي يسوده في الصف الإسلامي حالة من التشتت عصفت بكل آمال التوحد داخل هذا الصف للعمل على تطوير الجامعة والتقدم بها، وإلا لكان للإسلاميين نصيب الأسد في التواجد في الجامعات بكل فاعلية وباستمرارية تامة على مدار العام. يداني هذا أيضا الوضع في الإدارات والمؤسسات الحكومية التي يروج الإعلام بقوة عن موضوع تركيز حركة النهضة أعضائها في الإدارات للسيطرة عليها حتى كادت تكون سمات التدين والاستقامة في احدى المؤسسات أدلة كافية لالصاق التهم بطمها وطميمها بالمواطن الجاني الذي يميل للتوجه الإسلامي. زيادة على كل ذلك يمكن أن نضيف عدم ضم شخصيات مفتاحية بارزة على الساحة سواء من الفنانين أو رجال الأعمال أو الإعلاميين ... إلخ إلا النزر اليسير الذي يعد على الأصابع.

كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على فقدان يكاد يكون تاما لحركة النهضة على أدوات الضغط والتغيير وآليات المقارعة السياسية إلا من آلية واحدة تفتخر بها الحركة منذ الثمانينات وهي قوة الشارع. فإن أعضاءها يتسمون بالانضباط والحضور الدائم مما يجعل حركة النهضة الرقم الأصعب والأقوى على الساحة السياسية والتي تستطيع بيسر أن تملأ شارعا بحجم شارع الحبيب بورقيبة من أقصى إلى أقصى ويعجز عن ذلك جميع الأحزاب الأخرى، ومرد ذلك حسب اعتقادي هو قاعدتهم الانتخابية الذاتية الهشة عكس حركة النهضة. ولا أعتقد أن الحركة الإسلامية في تونس يخفى عليها ان كسب الشارع وحده لا يعادل في الكفة شيئا إذا فقدت آليات أخرى أتينا على ذكر بعضها، معتبرة بذلك على تجربتها منذ عقدين وتعويلها على الشارع، وكذلك تجربة الإخوان المسلمين في مصر وما هي عنا ببعيدة. وبطبيعة الحال دون أن ننسى الكتلة النيابية التي تمتلكها الحركة والتي تمثل ثلاثون بالمئة من مجلس النواب.

أولويات حركة النهضة في المرحلة المقبلة

التقييم أولا :
أمَا وقد عاد التجمع المنحل في ثوب جديد تحت مسمى نداء تونس وأخفقت حركة النهضة في كسب الرهان الانتخابي الأخير فلا شك أن هذا يعتبر فشلا له مسبباته وقد كان قطعا بالإمكان أفضل مما كان، فالواجب الأبرز لحركة النهضة أن تدرس المرحلة الفارطة بعناية وتقيم مواضع الخلل وأسباب الفشل ومواطن النقص فإن ذلك يعتبر أس الإصلاح وأصل كل إرتقاء.

الانتخابات الرئاسية :
خرج مجلس شورى الحركة بقرار عدم دعم أي مرشح للانتخابات وفسح المجال للأعضاء لاختيار المرشح الأسلم حسب ما يمليه عليهم ضميرهم. وهكذا يتحول رصيد الحركة الانتخابي وقواعدها لأهداف للاستدراج من قبل جميع المترشحين للرئاسية. ولكن الميل الواضح لأغلب النهضاويين يظهر نحو الرئيس الحالي محمد منصف المرزوقي وانخرط الكثيرون منهم في حملته الانتخابية.
إن قرار مجلس الشورى بعدم دعم أي مرشح يظهر تخوفا من إعادة فشل انتخابي آخر أمام مرشح نداء تونس الباجي قائد السبسي يدعم ذلك ما أكدته الانتخابات التشريعية بفوز حزبه وما أظهرته نتائج استطلاع كثيرة أجريت من قبل. والسيناريو الأقرب أن تكون الجولة الثانية للانتخابات بين مرشح نداء تونس والرئيس الحالي محمد منصف المرزوقي ثم يفوز الأول بفارق مريح نوعا ما. وهذا كما قلت ما تدعمه نتائج استطلاع كثيرة أجريت، وهي نتيجة طبيعية جدا للحملات الإعلامية الممنهجة التي سلطت ضد الرئيس الحالي المتغاضية تماما عن مواقفه المشرفة، والتي لقيت قبولا عربيا منقطع النظير خاصة تجاه القضية الفلسطينية، والمركزة في الآن ذاته عن زلاته وعثراته وارتجاليته التي تصل أحيانا حد الافراط.

وحسب اعتقادي فإنه قد كان من الأولى على حركة النهضة توجيه قواعدها لدعم إحدى شخصيتين : إما مصطفى بن جعفر بدرجة أولى، أو محمد نجيب الشابي بدرجة أقل. وذلك لأنهما الشخصيتين الأقرب للمواطن التونسي والأكثر شهرة عنده، واللتان لم ينالهما التشويه الإعلامي الممنهج كما هو الحال مع الرئيس الحالي، إضافة إلى أنها شخصيتان قادرتان على سحب عدد هام من مناصري مرشح نداء تونس والأخذ من قاعدته الانتخابية. كان من الممكن حينها أن يتوفر بصيص أمل يبعد استئثار التجمع على الحياة السياسية مرة أخرى لمدة خمسة سنوات بشقيها التشريعي والتنفيذي، علاوة على مكانته المحفوظة وراء الكواليس.

تكوين جبهة سياسية وطنية موحدة :
أحد أهم أسباب عودة التجمعيين للساحة هو التطبيع السياسي والإعلامي معهم ممن تموقعوا ايديولوجيا عوض أن يتموقعوا وطنيا لحفظ مكاسب الثورة وتحقيق مبادئها التي قامت عليها. فتم حشر الترويكا الحاكمة آنذاك في الزاوية حتى أصبح التجمع رقما صعبا في المعادلة السياسية تهرول وراءها الأحزاب الأخرى لينتهي الأمر نهاية تراجيدية ببقاء التجمع وفناء تلك الأحزاب، على الأقل مرحليا. وهكذا انصاعت حركة النهضة لمجالسة التجمع وقبولها بوجوده بعد أن كانت ترفض مقاسمته ذات القاعة في الحوارات التلفزية الإعلامية وتحاول جاهدة تمرير قانون تحصين الثورة ضد عودة التجمعيين.

إن دراسة تلك المرحلة توحي وتؤكد على ضرورة تشكيل جبهة وطنية موحدة ضد استئثار التجمعيين بالوطن مرة أخرى ونشر فسادهم وإفسادهم، ينبغي التركيز إعلاميا بشدة على مصطلحات الثورة الدلالية من مثل المحاسبة ومقاومة الفساد والتذكير بالعقود التي قضيناها تحت حكم الدستوريين والتجمعيين وما تخللها من فساد والتذكير بما يوجد من ملفات فساد بل ينبغي تحريكها بشدة إعلاميا وسياسيا لزعزعة معاقلهم المتسترة بالانحراف، دون نسيان ما يبغيه المواطن البسيط من مسائل مثل غلاء المعيشة وتدهور مستوى الرواتب وغير ذلك مما يمسه مباشرة.

إن خطاب حركة النهضة الحالي الرازخ دائما تحت الدفاع وابعاد التهم جعل الحركة في موقف المجرم المتهم بدل أن يكون التجمع في ذلك الموقف وسيدفع لخسارات أخرى متوالية، فترى اليوم مناقشة حادة سياسية على ضرورة مراجعة تعيينات السنتين الفارطتين من حكم الترويكا في حين لا تكاد تجد من يحدثنا عن الفساد الذي ثار عليه الشعب. وإن استمر الأمر هكذا بعد تولي نداء تونس مقاليد الحكم فإن الكارثة ستكون على الأبواب لا محالة. فعدم تشكيل جبهة وطنية للنضال السياسي لحفظ مكتسبات الثورة سيجعل حركة النهضة في مواجهة منفردة مع نظام الحزب الواحد الذي عاد من جديد وسيعيد سيناريو أوائل التسعينات حرفيا في تونس، ولا معنى لهذه الجبهة إن لم تتبنى خطابا مهاجما للمنظومة النوفمبرية الجديدة.

يعتبر الدستور والهيئات التي أقيمت مثل هيئة الحقيقة والكرامة والهيئة العليا المستقلة للإعلام مما نظمه القانون وضبطه من أهم ما خرجنا به من المرحلة السابقة. وفي ظل التهديد المتصاعد من نداء تونس ضد هذه الهيئات في بعض التصريحات قبل أن يشكل حتى الحكومة لا بد من التفكير في حاضنة سياسية تدافع عن هذه المكاسب وتحفظهم حتى لا تمتد يد التجمع إليهم فنخسر ما شيدنا في المرحلة السابقة. بل يتجاوز الأمر ذلك ليشمل الدفاع عن الجمعيات بأنواعها واتحاد الشغل وبقية المنظمات. فجميع الفرضيات ينبغي أن تطرح وإيجاد صد رادع ضد تغول الحزب الواحد من الأهمية بمكان.

ولا تفوتني الإشارة هنا لضرورة توحد الاحزاب الوطنية في المرحلة المقبلة بصغيرها المعلوم وصغيرها الذي يحسب نفسه كبيرا ولم يحصل إلا مقعدا أو مقعدين في المجلس المرتقب. فإن حب الزعامة قد نخرها والتشتت أدى لانهيارها وضعف نتائجها بسبب ضعف مكاتبها وحملتها وضمورها على جميع الأصعدة. فتتحمل مسؤولية كبيرة هي الأخرى في الوصول لهذه النتيجة الحالية. فحتى مساعي حركة النهضة الحثيثة لتوحيدهم تحت مرشح رئاسي واحد خلال هذه الفترة انتهى بالفشل، والغريب أن تشتت هذه الأحزاب الوطنية وتتوحد قوى الثورة المضادة وتتوحد. وإلا فلا معنى لجبهة وطنية تمثل حركة النهضة فيها السواد الأعظم والبقية من غثاء السيل المتشتتين.

المعارضة أم المشاركة في الحكم ؟
أهم معيار لقياس التفضيل هو ضمان حيادية وزارات السيادة وخاصة وزارة الداخلية ووزارة العدل، فإن كانت الحركة بدخولها للحكم سواء في حكومة وحدة وطنية موسعة أو في تحالف ثنائي مع نداء تونس تضمن حيادية تلكم الوزارات فإن دخوله يكون أضمن من المعارضة. وإن كانت الجبهة الوطنية قادرة على فرض شرط حيادية وزارات السيادة على التحالف الحكومي القادم من خلال الحوار الوطني الذي يضم أبرز الأحزاب والرباعي الراعي للحوار (اتحاد الشغل وهيئة المحامين ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان واتحاد الصناعة والتجارة) فبذلك تكون المعارضة أسلم وأحفظ.

ذلك أن الدخول في تحالف حكومي مع نداء تونس سيؤدي حتميا لتصدع الحزبين. حركة النهضة باعتبار أنها دخلت في تحالف مع ما يعتبره مناضلوها تحالف مرفوض مع جلاد الأمس. ونداء تونس باعتباره أنشئ أساسا ضد حركة النهضة فيغيب أساس بعثه وينفض من حوله مناصروه. بيد أن نداء تونس يدرك تماما أنه بين خيارين أحلاهما مر، إما التحالف مع النهضة في المرحلة القادمة لتكوين حكومة أو التحالف مع الجبهة الشعبية المكونة من أحزاب شيوعية وقومية والتي تعتبر هي الأخرى مهددة بالانقسام إذا ما دخلت تلك المغامرة، وبذلك تكون قد شكلت تحالفا هجينا يتبنى رؤى اقتصادية وسياسية غير متجانسة. وفي حال عدم تحييد وزارات السيادة فقد يجمع بين هؤلاء هدف واحد : انهاء المسار الانتقالي في تونس نحو الحريات بداية باجتثاث حركة النهضة.

وعليه، فإن على أبناء الحركة أن يفكروا أساسا في تجنيب حركتهم تحالفا ايديولوجيا ضدهم وأن يضعوا مسألة تحييد الوزارات وضمان الشخصيات المشرفة عليها ونزاهتها على رأس أهدافهم وأعلاها مهما كانت الخيارات المقبلة التي سيكشف عليها المستقبل القريب وأن يجنبوا الحركة أدنى التصدعات والانشقاقات. هكذا يكون مصير الحركة بيدها، وتدخل في استنزاف مع نداء تونس الذي يعتبر حزبا هجينا إذا ما نظرنا لقاعدته الشعبية الأساسية الهشة وتكونه من مجموعات غير متجانسة أبدا. وإلا فإن مصير حركة النهضة لن يكون إلا بيد منافسيها خاضعة بذلك لمراجعاتهم السياسية حول تجربة ابن علي وقبله بورقيبة مع حركة النهضة والاتجاه الإسلامي. خاصة في ظل ما تحدثنا عنه من غياب شبه تام لآليات الفعل السياسي.

مرة أخرى ينبغي أن نؤكد : اللهث وراء السياسي أكبر الاخطاء
قد تستمر الحريات في البلاد لأجل قريب، وفي ذلك الأجل إن تواصل اللهث وراء السياسي للحركة ونسيان المسائل الأخرى المركزية فيا خيبة المسعى حينها ! هل علينا أن نؤكد على هذا مرة أخرى أو أننا سنستفيق على وقع كارثة أعظم من مجرد خسارة انتخابات ؟
من الضروري جدا استغلال هذه الفترة الأولى في تدارك النقائص التي أتينا على ذكر بعضها في بداية المقال وكلما تسارعت وتيرة العمل في التدارك كلما ضاق الأفق على الثورة المضادة في العودة بتونس إلى ما قبل الثورة.

استيعاب الطاقات : ولا يتم ذلك إلا بمكاتب محلية وجهوية فاعلة، فينبغي إضفاء حركية منقطعة النظير على المكاتب واستغلال ميل التونسي للمعارضة بطبعه (في حال المعارضة) وخاصة الشباب. فمن المهم أن يتم استيعاب الطاقات كلها وتصريفهم في مشاريع مختلفة حسب اختلاف مشاربهم وتعدد طاقاتهم. فيتم تنظيم الأنشطة الدورية المتواصلة والمستمرة والمختلفة على مدار الأشهر فتعقد اللقاءات العلمية، الدورات التكوينية، الدروس الخصوصية للتلاميذ والطلبة، الرحلات، السهرات الإيمانية، اللقاءات الشعبية والمبادرات والحملات وغير ذلك من الأنشطة التي ستساهم في التعرف على الطاقات واستقطابها وتنميتها باستمرار وتربط ودهم وتطور شعور الانتماء للحركة وتصقلهم بفكرها. كل ذلك ينبغي أن يكون وأكثر بالنسبة للشباب، فينبغي أن تسند إليه رعاية مميزة حتى ممن هم دون الثامنة عشر من العمر فإن أبناء الثالثة عشر سيشكلون وزنا انتخابيا خلال خمس سنوات أخر، إضافة أن عمر الشباب يعتبر أيسر عمر يمكن أن يتشكل فيه الفكر فينقى من الشوائب. فضلا على تقريب واستقطاب الشخصيات المفتاحية في مجال الاقتصاد والأعمال، الإعلام، الفن، ...

تصريف الزاد البشري جمعياتيا : تكوين جمعيات مركزية على مستوى وطني في المجالات الهامة وتصريف الزاد البشري فيها حسب الاهتمامات دون تحويلها لـ"جمعيات حزبية". فعلى المستوى الدعوي على سبيل المثال تمثل جمعية الدعوة والإصلاح استثمارا رئيسيا وجب الانخراط فيه. وعلى ذاك المنوال ينبغي أن ينسج. وكل ذلك دون معاداة أي مبادرة أو عرقلة مشروع وليد بل وجب دعمهم وحثهم على النجاح خاصة إن كانت تلك المبادرات من أبناء الحركة. مع إسناد اهتمام خاص للمجالات الضعيفة بالنسبة للإسلاميين كالجمعيات الفنية بأشكالها والإقتصادية والتنموية ...

الاستثمار في الأعضاء : النضال والاستقامة هما الصفتان الرئيسيتان للفرد المنتمي للنهضة، ولا ينبغي الاقتصار عليهما بل الواجب إضافة خصال أخرى إليهما بحيث تشيع بين الأعضاء حتى تكون سمة مميزة لهم يصفهم بها المواطن العادي. فالاستثمار في الأعضاء من حيث التكوين الفكري، الشرعي، السياسي والاقتصادي يكاد يكون غائبا تماما إلا من محاولات فردية قليلة وليست ممنهجة ومنظمة من الحركة عموديا. بل يتعدى الأمر الأعضاء ليشمل القياديين الذين يجب أن يخضعوا لدورات تكوينية في مجالات مختلفة حتى يحسنوا تمثيل الحركة في جميع المحافل الإعلامية خاصة القيادات الصغرى والمتوسطة منهم.

العمل على الصورة : يغيب تماما عن الحركة أهمية الاشتغال على الصورة (عكس نداء تونس تماما) فيظهر القياديون بصورة غير لائقة ولا محترمة في أحيان كثيرة ومواضع مختلفة، ولا يهتم بالخلفية للصور ولا بجودة الآلات، ولا غير ذلك مما يدل على غياب تام للاحترافية في العمل الإعلامي وتقديم الصورة. وهذا إشكال متفرع مما سبقه، فلو تم الاستثمار في الأعضاء (والقياديين) وتكوينهم في هذا المجال باحتراف لتم تجاوز الإشكال. ولكن للأسف يتعدى الخطأ ذلك ليشمل أخطاء كبيرة في طريقة الجلوس وتعبيرات الوجه وغير ذلك. (مثال ذلك الطريقة البائسة التي ظهر عليها بعض القياديين بعد إعلان تفوق نداء تونس في التشريعية، ...). فتكوين المكاتب الإعلامية للحركة والقياديين في ذلك مهم.

مراكز البحوث والدراسات : ليس من المعقول أن يكون حزب بحجم حركة النهضة لا يبني سياسته على مراكز بحوث ودراسات ورؤى استشرافية. فالسير نحو بناء سياسة مرتكزة على أسس علمية وموضوعية ثابتة على دراسات وبحوث لا ينبغي أن تقل أهمية عن السير نحو مزيد من دمقرطة الحركة وتفعيل الشورى، وكأن هذين المصطلحين يحظران بشدة في حركة النهضة (أقصد الديمقراطية والشورى) ويغيب تماما اتباع البحوث والدراسات سواء من قبل الأعضاء أو القياديين. ويتضح هذا كلما تأملت في سياسة الحركة المتذبذبة والمتغيرة أحيانا إلى مئة وثمانون درجة من حادثة إلى أخرى. (دسترة فصل الشريعة، الموقف من التجمعيين، التنبؤ بنتائج الانتخابات ...)

المبادرة بالنسبة للأعضاء : على الإسلاميين الخروج من التقوقع والالتحام بالمجتمع، وليعتبروا بذلك من التجمعيين الذين رغم طوامهم خلال عقود إلا أنهم لم يعدموا حياء ليخرجوا علينا مهللين بتجربتهم الفريدة مع ابن علي في عديد المرات. فمن المهم أن يكون الفرد النهضاوي ملتحما بعدد كبير من الناس واقعيا وافتراضيا مؤثرا لا متأثرا يجادل ويحاور عوض الانزواء الذي يعيشه كثير منهم حتى إنه يستحي من كتابة فقرة صغيرة على تجربة ما على حسابه الافتراضي فلا تجد عنده إلا مشاركة ما هو جاهز من صور أو فيديوات وهو ما يجسد حالة غريبة من الكسل الذهني المرفق في حالات كثيرة بضعف تكويني مدقع.

كما أن اقتحام مجالات جديدة وتجسيد الأفكار الإبداعية والإقدام على تحقيقها مهمة أيضا ولا تخرج عن مجال المبادرة الذي نحن بصدده، وبغياب ذلك لا يرجى أن تتجاوز الحركة ضعفها على المستويات التي تعرضنا إليها سابقا، فبالمبادرة يصنع الإعلام الهادف ولو كان بوسائل بسيطة كالمدونات والتواصل مع المواقع والصحافيين حتى الاجانب منهم فلا تعدم بالمبادرة الحلول. وبها يمكن تجاوز النقائص في المجالات الخيرية والدعوية والإبداعية المختلفة ...
وعلى الحركة ان ترعى جميع المبادرات وتدفع بها نحو النجاح والارتقاء. ولعل المؤتمر القادم للحركة يحسم المشاكل الداخلية فيها ويدفع نحو توحيدها أكثر فيدعم الخطوات التي ستتخذ من الآن إلى حينئذ.

خلاصة :
إن أحسنت حركة النهضة اتخاذ القرارات السياسية والموازنة بين أخذ وجذب مع الحكومة فلا تقع في التطبيع بمعارضة كارتونية هزيلة تقف موقف المدافع دائما وأبدا أو شاهد زور في الحكم ولا مندفع نحو إعادة تكرير مواجهة التسعينات غير محسوبة العواقب. إن أحسنت في ذلك وزادت عليه إتقانها في ترتيب بيتها الداخلي وكسب المزيد من المساحات أفقيا في المجتمع فإنها تكون بذلك خطت خطوة كبيرة نحو الارتقاء لسدة الحكم بعد الانتخابات القادمة بحركة أكثر تماسكا وأقوى حنكة وأوسع تجربة وأضخم وزنا. خاصة أمام ما ينتظر الحزب الحاكم في الفترة المقبلة من المتاعب ومشاكل ينبغي أن يحلها. فقد تكون هذه الفترة أكبر منحة لحركة النهضة لتستغلها بتحسين وضعها والاستعداد لتجربة الحكم القادمة مستفيدة من تجربة حكمها الفارطة وأخطائها وتجربة معارضتها القادمة وكل ذلك في آن واحد.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.