vendredi 12 décembre 2014

مكتبة المدونة للتحميل

- كتب وروايات دان براون : تحميل من رابط واحد (6 روايات)
- كتب مؤلفين تونسيين : تحويل لموضوع منتدى تونيزيا سات (الشيخ الطاهر بن عاشور، راشد الغنوشي، البشير التركي، عبد الرحمان خليف، ...)
- كتب الإمام يوسف القرضاوي : على 3 روابط (الرابط 1 .. 2 .. 3)
- كتب الإمام محمد الغزالي : على 4 روابط (الرابط 1 .. 2 .. 3 .. 4)
- تحميل كتب حسب أسماء الكتاب : هنا.


dimanche 16 novembre 2014

قراءة في آليات الفعل السياسي لحركة النهضة وأولوياتها خلال المرحلة المقبلة

هل فشل "الإسلام السياسي" نهائيا ونشيع اليوم جثمانه إلى مثواه الأخير ؟ سؤال أقرب إلى الدراما المبتذلة يطرح على الساحة بعد الانتخابات التونسية يجيب عليه كثيرون من ضيقي الأفق بكل استبشار بـ"نعم" حازمة مباشرة، ذلك أنهم بنوا خلاصتهم تلك على لبنات مهتزة.
أولاهن، عدم إحاطتهم الكافية بما يعنيه التداول السلمي على السلطة وما يترتب عن ذلك ضرورة من مد وجزر في شعبية الأحزاب، وتغيّر الأوزان السياسية لاعتبارات عديدة إثر كل انتخابات. ومنهم من أحاط علما بهذه المعاني وخبرها بيد أنه تشبع بعقلية الاستئصال فلا تعني السلطة عنده إلا اجتثاث المخالف.

أما اللبنة الثانية فهي عدم اعتبارهم من عودة التجمع المنحل بعد أن قُبِرَ، وذلك من أوسع الأبواب السياسية بانتخابات ديمقراطية لا يكاد يُطعن فيها. فإمكانية العودة من تحت الرماد سمة للأحزاب الكبرى سواء بشعبيتها كما هو الحال مع حركة النهضة بعد ثلاث وعشرون سنة من الغياب أو بالقوة المالية والإعلامية والأذرع المبثوثة في أعماق الدولة كحزب التجمع المنحل.

أما اللبنة الثالثة فهي قصر نظرهم بزعمهم أن الأفكار يمكن لها أن تأفل بخسارة انتخابات. أإذا كانت السجون والتشريد والإقصاء لم تفلح في ذلك على مدار العقود أتنجح انتخابات في ذلك ! فضلا عن لبنات أخرى لا حاجة لاستقرائها في ثنايا هذا المقال فليس ذلك هدفي من هذه البسطة ولكن حسبي أن أبين أن السؤال المطروح لا يعدو أن يكون محض هذيان وأضغاث أحلام. بل على العكس تماما بالنسبة للإسلاميين في تونس، فإن الفترة الحالية التي سيقضوها خارج السلطة هي أهم فترة على الإطلاق في تاريخ الحركة الإسلامية التونسية وهي التي ستمهد لإقلاع حضاري إن توفر شرطان أساسيان اثنان. الأول ذاتي، وذلك بحسن التصرف وإدارة المرحلة والاجتهاد وكسب ساحات جديدة أفقيا في المجتمع. وثانيهما خارجي لا ينفصل عن الشرط الأول في جزء منه عند التحقيق، وهو تواصل مناخ الحريات وسيادة الديمقراطية في الانتخابات القادمة دون تزييف لها ولا تدليس.

قراءة في آليات الفعل السياسي والاجتماعي لحركة النهضة
بعد غياب تام لأكثر من عقدين واجتثاث كلي بكل ما تحمله الكلمة من معنى تجد حركة النهضة نفسها مجردة من جميع آليات الفعل وأدوات الضغط والتغيير، كذا حال أبنائها بمكاسبهم مقارنة بأترابهم إذا ما تؤخذ في المقياس حالتهم الاجتماعية، فهؤلاء يسعون لجبر الضرر الذي لحقهم من إقصائهم وإبعادهم عن أعمالهم لعقدين وهرسلتهم ومحاصرتهم وأولئك اكتسبوا ما يعلوا بحالتهم الاجتماعية، خاصة إن كانوا من المقتاتين على عتبات النظام السابق.

بعد الثورة مباشرة وجدت حركة النهضة نفسها أمام تحديات جمة أبرزها لملمة الشتات والتنظم وإعادة إحياء الحركة بالتوازي مع الدخول في ماراطون سياسي بدأ منذ القصبة واحد إلى حين الاستعداد للانتخابات بالحملة الانتخابية والتهيؤ لها. واشتد الحال صعوبة بعد الانتخابات بتولي الحركة ثلاث مهام بالتوازي لا تقل إحداها عن الأخرى أهمية وهم : المهمة الأولى هي كل ما يشمل العمل الحكومي، والثانية كل ما يشمل العمل النيابي في المجلس التأسيسي، والثالثة كل ما يتعلق بالبيت الداخلي أو المجالات الخارجية كالعمل النقابي والاجتماعي الدعوي وغير ذلك. فتشتت بذلك أبناء الحركة بين محاور كثيرة.

لا شك إذا في حال التقييم الموضوعي نجد أن المردود الذي يُنتظر في الظفر بآليات التغيير شحيح. وهو فعلا ما خرجت به حركة النهضة حاليا.
فعلى المستوى الداخلي من حيث تقييم المكاتب الحزبية محليا وجهويا للحركة فإن حركيتها في تناقص مستمر منذ أن فشلت الحركة في استيعاب الطاقات الوافدة عليها بعيد الثورة وعجزت عن تصريفهم نحو الانتاج والفاعلية. والإشكالية تظهر أكثر في القطاع الشبابي الذي شهد تهميشا وإهمالا دفع إلى تناقص حاد لأعداد الشباب النهضوي تولد عنه تدريجيا لا مبالاة عكسية من قطاع واسع من الشباب تجاه الحركة. ومما دعم هذه الوضعية وثبتها عدم الحسم بجدية في قضايا عديدة متعلقة بالشباب وعدم إطلاق زمام المبادرة لهم واعطائهم المنابر الحرة لكشف طاقاتهم بالعمل بتنظم صلب جسم الحركة حتى لا يخرج عن نطاقها فيقع التشتت. وكذا كان طغيان المسائل الخارجية على الإصلاح الداخلي لجسم الحركة من العوامل السلبية التي تولد عنها بطء وتقاعس شديدين.

أما على المستوى الاجتماعي فقد أنشأ أبناء الحركة الإسلامية حزاما من الجمعيات رغم أهميتها وما قدمته للتونسي بعد الثورة من خدمات إلا أنها لا تبلغ أن تكون في مستوى المأمول. فلا المجال الخيري، ولا المجال الثقافي الفكري، ولا التنموي الإصلاحي، ولا الدعوي الديني، تم اشباعهم عملا على المستوى المطلوب. فالثغرات فيها لا تزال واضحة للعيان خاصة إذا تناولنا المسألة بنظرة شاملة ونقدية من جانب التغطية الكاملة لكافة مناطق الجمهورية، والنقص فيها لا يزال باد. ولا يصل حزام الجمعيات هذا ليشكل عامل ضغط بأي شكل من الأشكال ذلك أن كل الحزام المدني بفروعه متعدد الرؤوس بكثرة فلا تكاد تجد جسما فيها مؤثرا في محيطه وفي غير أعضائه. ومن المعرّات كذلك، أن هواية الإسلاميين الأولى العمل الخيري ومساعدة الفقراء وتقديم يد العون للمحتاجين وأضراب هذه الأعمال، ورغم ما لذلك من الأهمية وهو مما يحسب لهم بشدة، ولكن في الآن ذاته يضيعون تماما الجمعيات القريبة من صناع القرار الوطني والإقليمي والدولي، تلك التي تبني علاقات وثيقة مع أهم المفاتيح كالجمعيات الحقوقية والإقتصادية خاصة وغيرهما ممن استأثر بهم غير الإسلاميون. فهذا المجال هو الآخر يعتبر دون المطلوب ويحتاج لتطوير أكثر.

لا يخفى أيضا النقص في المجال الإعلامي، فإن رصيد الإسلاميين فيه كان صفرا إلا من بعض الأقلام التي تكتب هنا وهناك في بعض الصحف الأسبوعية المطاردة بشدة والمضيق عليها كالموقف لسان الحزب التقدمي الديمقراطي. ومع فتح المجال لإنشاء الإعلام البصري والسمعي والمرئي، أخذ الإسلاميون حظهم وبادروا بالإنشاء وسبر الأغوار الجديدة مع إيمانهم التام بأن الإعلام الحزبي لا سبيل لنجاحه والواجب توفير إعلام يجمع بين الاستقلالية والحيادية والإبداع فظهرت العديد من المحاولات الجادة في ذلك بنجاح متفاوت بينها. ولكن نسبة تأثيرها مقارنة بغيرها ضعيفة، وطريقتها تحتاج لتطوير وابداع، وشخصياتها الإعلامية تحتاج لصناعة وبناء متواصل حثيث. فالأمر يحتاج لصبر وطول نفس وكثير من الحرفية والابداع لنيل ثقة المتابع ورضاه.

العديد من المجالات الأخرى التي يمكن أن نجمل القول فيها بالتقييم ذاته. سواء تواجد الإسلاميين في النقابات. العمل الطلابي بمختلف فروعه في الجامعات الذي يسوده في الصف الإسلامي حالة من التشتت عصفت بكل آمال التوحد داخل هذا الصف للعمل على تطوير الجامعة والتقدم بها، وإلا لكان للإسلاميين نصيب الأسد في التواجد في الجامعات بكل فاعلية وباستمرارية تامة على مدار العام. يداني هذا أيضا الوضع في الإدارات والمؤسسات الحكومية التي يروج الإعلام بقوة عن موضوع تركيز حركة النهضة أعضائها في الإدارات للسيطرة عليها حتى كادت تكون سمات التدين والاستقامة في احدى المؤسسات أدلة كافية لالصاق التهم بطمها وطميمها بالمواطن الجاني الذي يميل للتوجه الإسلامي. زيادة على كل ذلك يمكن أن نضيف عدم ضم شخصيات مفتاحية بارزة على الساحة سواء من الفنانين أو رجال الأعمال أو الإعلاميين ... إلخ إلا النزر اليسير الذي يعد على الأصابع.

كل هذا إن دل على شيء فإنما يدل على فقدان يكاد يكون تاما لحركة النهضة على أدوات الضغط والتغيير وآليات المقارعة السياسية إلا من آلية واحدة تفتخر بها الحركة منذ الثمانينات وهي قوة الشارع. فإن أعضاءها يتسمون بالانضباط والحضور الدائم مما يجعل حركة النهضة الرقم الأصعب والأقوى على الساحة السياسية والتي تستطيع بيسر أن تملأ شارعا بحجم شارع الحبيب بورقيبة من أقصى إلى أقصى ويعجز عن ذلك جميع الأحزاب الأخرى، ومرد ذلك حسب اعتقادي هو قاعدتهم الانتخابية الذاتية الهشة عكس حركة النهضة. ولا أعتقد أن الحركة الإسلامية في تونس يخفى عليها ان كسب الشارع وحده لا يعادل في الكفة شيئا إذا فقدت آليات أخرى أتينا على ذكر بعضها، معتبرة بذلك على تجربتها منذ عقدين وتعويلها على الشارع، وكذلك تجربة الإخوان المسلمين في مصر وما هي عنا ببعيدة. وبطبيعة الحال دون أن ننسى الكتلة النيابية التي تمتلكها الحركة والتي تمثل ثلاثون بالمئة من مجلس النواب.

أولويات حركة النهضة في المرحلة المقبلة

التقييم أولا :
أمَا وقد عاد التجمع المنحل في ثوب جديد تحت مسمى نداء تونس وأخفقت حركة النهضة في كسب الرهان الانتخابي الأخير فلا شك أن هذا يعتبر فشلا له مسبباته وقد كان قطعا بالإمكان أفضل مما كان، فالواجب الأبرز لحركة النهضة أن تدرس المرحلة الفارطة بعناية وتقيم مواضع الخلل وأسباب الفشل ومواطن النقص فإن ذلك يعتبر أس الإصلاح وأصل كل إرتقاء.

الانتخابات الرئاسية :
خرج مجلس شورى الحركة بقرار عدم دعم أي مرشح للانتخابات وفسح المجال للأعضاء لاختيار المرشح الأسلم حسب ما يمليه عليهم ضميرهم. وهكذا يتحول رصيد الحركة الانتخابي وقواعدها لأهداف للاستدراج من قبل جميع المترشحين للرئاسية. ولكن الميل الواضح لأغلب النهضاويين يظهر نحو الرئيس الحالي محمد منصف المرزوقي وانخرط الكثيرون منهم في حملته الانتخابية.
إن قرار مجلس الشورى بعدم دعم أي مرشح يظهر تخوفا من إعادة فشل انتخابي آخر أمام مرشح نداء تونس الباجي قائد السبسي يدعم ذلك ما أكدته الانتخابات التشريعية بفوز حزبه وما أظهرته نتائج استطلاع كثيرة أجريت من قبل. والسيناريو الأقرب أن تكون الجولة الثانية للانتخابات بين مرشح نداء تونس والرئيس الحالي محمد منصف المرزوقي ثم يفوز الأول بفارق مريح نوعا ما. وهذا كما قلت ما تدعمه نتائج استطلاع كثيرة أجريت، وهي نتيجة طبيعية جدا للحملات الإعلامية الممنهجة التي سلطت ضد الرئيس الحالي المتغاضية تماما عن مواقفه المشرفة، والتي لقيت قبولا عربيا منقطع النظير خاصة تجاه القضية الفلسطينية، والمركزة في الآن ذاته عن زلاته وعثراته وارتجاليته التي تصل أحيانا حد الافراط.

وحسب اعتقادي فإنه قد كان من الأولى على حركة النهضة توجيه قواعدها لدعم إحدى شخصيتين : إما مصطفى بن جعفر بدرجة أولى، أو محمد نجيب الشابي بدرجة أقل. وذلك لأنهما الشخصيتين الأقرب للمواطن التونسي والأكثر شهرة عنده، واللتان لم ينالهما التشويه الإعلامي الممنهج كما هو الحال مع الرئيس الحالي، إضافة إلى أنها شخصيتان قادرتان على سحب عدد هام من مناصري مرشح نداء تونس والأخذ من قاعدته الانتخابية. كان من الممكن حينها أن يتوفر بصيص أمل يبعد استئثار التجمع على الحياة السياسية مرة أخرى لمدة خمسة سنوات بشقيها التشريعي والتنفيذي، علاوة على مكانته المحفوظة وراء الكواليس.

تكوين جبهة سياسية وطنية موحدة :
أحد أهم أسباب عودة التجمعيين للساحة هو التطبيع السياسي والإعلامي معهم ممن تموقعوا ايديولوجيا عوض أن يتموقعوا وطنيا لحفظ مكاسب الثورة وتحقيق مبادئها التي قامت عليها. فتم حشر الترويكا الحاكمة آنذاك في الزاوية حتى أصبح التجمع رقما صعبا في المعادلة السياسية تهرول وراءها الأحزاب الأخرى لينتهي الأمر نهاية تراجيدية ببقاء التجمع وفناء تلك الأحزاب، على الأقل مرحليا. وهكذا انصاعت حركة النهضة لمجالسة التجمع وقبولها بوجوده بعد أن كانت ترفض مقاسمته ذات القاعة في الحوارات التلفزية الإعلامية وتحاول جاهدة تمرير قانون تحصين الثورة ضد عودة التجمعيين.

إن دراسة تلك المرحلة توحي وتؤكد على ضرورة تشكيل جبهة وطنية موحدة ضد استئثار التجمعيين بالوطن مرة أخرى ونشر فسادهم وإفسادهم، ينبغي التركيز إعلاميا بشدة على مصطلحات الثورة الدلالية من مثل المحاسبة ومقاومة الفساد والتذكير بالعقود التي قضيناها تحت حكم الدستوريين والتجمعيين وما تخللها من فساد والتذكير بما يوجد من ملفات فساد بل ينبغي تحريكها بشدة إعلاميا وسياسيا لزعزعة معاقلهم المتسترة بالانحراف، دون نسيان ما يبغيه المواطن البسيط من مسائل مثل غلاء المعيشة وتدهور مستوى الرواتب وغير ذلك مما يمسه مباشرة.

إن خطاب حركة النهضة الحالي الرازخ دائما تحت الدفاع وابعاد التهم جعل الحركة في موقف المجرم المتهم بدل أن يكون التجمع في ذلك الموقف وسيدفع لخسارات أخرى متوالية، فترى اليوم مناقشة حادة سياسية على ضرورة مراجعة تعيينات السنتين الفارطتين من حكم الترويكا في حين لا تكاد تجد من يحدثنا عن الفساد الذي ثار عليه الشعب. وإن استمر الأمر هكذا بعد تولي نداء تونس مقاليد الحكم فإن الكارثة ستكون على الأبواب لا محالة. فعدم تشكيل جبهة وطنية للنضال السياسي لحفظ مكتسبات الثورة سيجعل حركة النهضة في مواجهة منفردة مع نظام الحزب الواحد الذي عاد من جديد وسيعيد سيناريو أوائل التسعينات حرفيا في تونس، ولا معنى لهذه الجبهة إن لم تتبنى خطابا مهاجما للمنظومة النوفمبرية الجديدة.

يعتبر الدستور والهيئات التي أقيمت مثل هيئة الحقيقة والكرامة والهيئة العليا المستقلة للإعلام مما نظمه القانون وضبطه من أهم ما خرجنا به من المرحلة السابقة. وفي ظل التهديد المتصاعد من نداء تونس ضد هذه الهيئات في بعض التصريحات قبل أن يشكل حتى الحكومة لا بد من التفكير في حاضنة سياسية تدافع عن هذه المكاسب وتحفظهم حتى لا تمتد يد التجمع إليهم فنخسر ما شيدنا في المرحلة السابقة. بل يتجاوز الأمر ذلك ليشمل الدفاع عن الجمعيات بأنواعها واتحاد الشغل وبقية المنظمات. فجميع الفرضيات ينبغي أن تطرح وإيجاد صد رادع ضد تغول الحزب الواحد من الأهمية بمكان.

ولا تفوتني الإشارة هنا لضرورة توحد الاحزاب الوطنية في المرحلة المقبلة بصغيرها المعلوم وصغيرها الذي يحسب نفسه كبيرا ولم يحصل إلا مقعدا أو مقعدين في المجلس المرتقب. فإن حب الزعامة قد نخرها والتشتت أدى لانهيارها وضعف نتائجها بسبب ضعف مكاتبها وحملتها وضمورها على جميع الأصعدة. فتتحمل مسؤولية كبيرة هي الأخرى في الوصول لهذه النتيجة الحالية. فحتى مساعي حركة النهضة الحثيثة لتوحيدهم تحت مرشح رئاسي واحد خلال هذه الفترة انتهى بالفشل، والغريب أن تشتت هذه الأحزاب الوطنية وتتوحد قوى الثورة المضادة وتتوحد. وإلا فلا معنى لجبهة وطنية تمثل حركة النهضة فيها السواد الأعظم والبقية من غثاء السيل المتشتتين.

المعارضة أم المشاركة في الحكم ؟
أهم معيار لقياس التفضيل هو ضمان حيادية وزارات السيادة وخاصة وزارة الداخلية ووزارة العدل، فإن كانت الحركة بدخولها للحكم سواء في حكومة وحدة وطنية موسعة أو في تحالف ثنائي مع نداء تونس تضمن حيادية تلكم الوزارات فإن دخوله يكون أضمن من المعارضة. وإن كانت الجبهة الوطنية قادرة على فرض شرط حيادية وزارات السيادة على التحالف الحكومي القادم من خلال الحوار الوطني الذي يضم أبرز الأحزاب والرباعي الراعي للحوار (اتحاد الشغل وهيئة المحامين ورابطة الدفاع عن حقوق الإنسان واتحاد الصناعة والتجارة) فبذلك تكون المعارضة أسلم وأحفظ.

ذلك أن الدخول في تحالف حكومي مع نداء تونس سيؤدي حتميا لتصدع الحزبين. حركة النهضة باعتبار أنها دخلت في تحالف مع ما يعتبره مناضلوها تحالف مرفوض مع جلاد الأمس. ونداء تونس باعتباره أنشئ أساسا ضد حركة النهضة فيغيب أساس بعثه وينفض من حوله مناصروه. بيد أن نداء تونس يدرك تماما أنه بين خيارين أحلاهما مر، إما التحالف مع النهضة في المرحلة القادمة لتكوين حكومة أو التحالف مع الجبهة الشعبية المكونة من أحزاب شيوعية وقومية والتي تعتبر هي الأخرى مهددة بالانقسام إذا ما دخلت تلك المغامرة، وبذلك تكون قد شكلت تحالفا هجينا يتبنى رؤى اقتصادية وسياسية غير متجانسة. وفي حال عدم تحييد وزارات السيادة فقد يجمع بين هؤلاء هدف واحد : انهاء المسار الانتقالي في تونس نحو الحريات بداية باجتثاث حركة النهضة.

وعليه، فإن على أبناء الحركة أن يفكروا أساسا في تجنيب حركتهم تحالفا ايديولوجيا ضدهم وأن يضعوا مسألة تحييد الوزارات وضمان الشخصيات المشرفة عليها ونزاهتها على رأس أهدافهم وأعلاها مهما كانت الخيارات المقبلة التي سيكشف عليها المستقبل القريب وأن يجنبوا الحركة أدنى التصدعات والانشقاقات. هكذا يكون مصير الحركة بيدها، وتدخل في استنزاف مع نداء تونس الذي يعتبر حزبا هجينا إذا ما نظرنا لقاعدته الشعبية الأساسية الهشة وتكونه من مجموعات غير متجانسة أبدا. وإلا فإن مصير حركة النهضة لن يكون إلا بيد منافسيها خاضعة بذلك لمراجعاتهم السياسية حول تجربة ابن علي وقبله بورقيبة مع حركة النهضة والاتجاه الإسلامي. خاصة في ظل ما تحدثنا عنه من غياب شبه تام لآليات الفعل السياسي.

مرة أخرى ينبغي أن نؤكد : اللهث وراء السياسي أكبر الاخطاء
قد تستمر الحريات في البلاد لأجل قريب، وفي ذلك الأجل إن تواصل اللهث وراء السياسي للحركة ونسيان المسائل الأخرى المركزية فيا خيبة المسعى حينها ! هل علينا أن نؤكد على هذا مرة أخرى أو أننا سنستفيق على وقع كارثة أعظم من مجرد خسارة انتخابات ؟
من الضروري جدا استغلال هذه الفترة الأولى في تدارك النقائص التي أتينا على ذكر بعضها في بداية المقال وكلما تسارعت وتيرة العمل في التدارك كلما ضاق الأفق على الثورة المضادة في العودة بتونس إلى ما قبل الثورة.

استيعاب الطاقات : ولا يتم ذلك إلا بمكاتب محلية وجهوية فاعلة، فينبغي إضفاء حركية منقطعة النظير على المكاتب واستغلال ميل التونسي للمعارضة بطبعه (في حال المعارضة) وخاصة الشباب. فمن المهم أن يتم استيعاب الطاقات كلها وتصريفهم في مشاريع مختلفة حسب اختلاف مشاربهم وتعدد طاقاتهم. فيتم تنظيم الأنشطة الدورية المتواصلة والمستمرة والمختلفة على مدار الأشهر فتعقد اللقاءات العلمية، الدورات التكوينية، الدروس الخصوصية للتلاميذ والطلبة، الرحلات، السهرات الإيمانية، اللقاءات الشعبية والمبادرات والحملات وغير ذلك من الأنشطة التي ستساهم في التعرف على الطاقات واستقطابها وتنميتها باستمرار وتربط ودهم وتطور شعور الانتماء للحركة وتصقلهم بفكرها. كل ذلك ينبغي أن يكون وأكثر بالنسبة للشباب، فينبغي أن تسند إليه رعاية مميزة حتى ممن هم دون الثامنة عشر من العمر فإن أبناء الثالثة عشر سيشكلون وزنا انتخابيا خلال خمس سنوات أخر، إضافة أن عمر الشباب يعتبر أيسر عمر يمكن أن يتشكل فيه الفكر فينقى من الشوائب. فضلا على تقريب واستقطاب الشخصيات المفتاحية في مجال الاقتصاد والأعمال، الإعلام، الفن، ...

تصريف الزاد البشري جمعياتيا : تكوين جمعيات مركزية على مستوى وطني في المجالات الهامة وتصريف الزاد البشري فيها حسب الاهتمامات دون تحويلها لـ"جمعيات حزبية". فعلى المستوى الدعوي على سبيل المثال تمثل جمعية الدعوة والإصلاح استثمارا رئيسيا وجب الانخراط فيه. وعلى ذاك المنوال ينبغي أن ينسج. وكل ذلك دون معاداة أي مبادرة أو عرقلة مشروع وليد بل وجب دعمهم وحثهم على النجاح خاصة إن كانت تلك المبادرات من أبناء الحركة. مع إسناد اهتمام خاص للمجالات الضعيفة بالنسبة للإسلاميين كالجمعيات الفنية بأشكالها والإقتصادية والتنموية ...

الاستثمار في الأعضاء : النضال والاستقامة هما الصفتان الرئيسيتان للفرد المنتمي للنهضة، ولا ينبغي الاقتصار عليهما بل الواجب إضافة خصال أخرى إليهما بحيث تشيع بين الأعضاء حتى تكون سمة مميزة لهم يصفهم بها المواطن العادي. فالاستثمار في الأعضاء من حيث التكوين الفكري، الشرعي، السياسي والاقتصادي يكاد يكون غائبا تماما إلا من محاولات فردية قليلة وليست ممنهجة ومنظمة من الحركة عموديا. بل يتعدى الأمر الأعضاء ليشمل القياديين الذين يجب أن يخضعوا لدورات تكوينية في مجالات مختلفة حتى يحسنوا تمثيل الحركة في جميع المحافل الإعلامية خاصة القيادات الصغرى والمتوسطة منهم.

العمل على الصورة : يغيب تماما عن الحركة أهمية الاشتغال على الصورة (عكس نداء تونس تماما) فيظهر القياديون بصورة غير لائقة ولا محترمة في أحيان كثيرة ومواضع مختلفة، ولا يهتم بالخلفية للصور ولا بجودة الآلات، ولا غير ذلك مما يدل على غياب تام للاحترافية في العمل الإعلامي وتقديم الصورة. وهذا إشكال متفرع مما سبقه، فلو تم الاستثمار في الأعضاء (والقياديين) وتكوينهم في هذا المجال باحتراف لتم تجاوز الإشكال. ولكن للأسف يتعدى الخطأ ذلك ليشمل أخطاء كبيرة في طريقة الجلوس وتعبيرات الوجه وغير ذلك. (مثال ذلك الطريقة البائسة التي ظهر عليها بعض القياديين بعد إعلان تفوق نداء تونس في التشريعية، ...). فتكوين المكاتب الإعلامية للحركة والقياديين في ذلك مهم.

مراكز البحوث والدراسات : ليس من المعقول أن يكون حزب بحجم حركة النهضة لا يبني سياسته على مراكز بحوث ودراسات ورؤى استشرافية. فالسير نحو بناء سياسة مرتكزة على أسس علمية وموضوعية ثابتة على دراسات وبحوث لا ينبغي أن تقل أهمية عن السير نحو مزيد من دمقرطة الحركة وتفعيل الشورى، وكأن هذين المصطلحين يحظران بشدة في حركة النهضة (أقصد الديمقراطية والشورى) ويغيب تماما اتباع البحوث والدراسات سواء من قبل الأعضاء أو القياديين. ويتضح هذا كلما تأملت في سياسة الحركة المتذبذبة والمتغيرة أحيانا إلى مئة وثمانون درجة من حادثة إلى أخرى. (دسترة فصل الشريعة، الموقف من التجمعيين، التنبؤ بنتائج الانتخابات ...)

المبادرة بالنسبة للأعضاء : على الإسلاميين الخروج من التقوقع والالتحام بالمجتمع، وليعتبروا بذلك من التجمعيين الذين رغم طوامهم خلال عقود إلا أنهم لم يعدموا حياء ليخرجوا علينا مهللين بتجربتهم الفريدة مع ابن علي في عديد المرات. فمن المهم أن يكون الفرد النهضاوي ملتحما بعدد كبير من الناس واقعيا وافتراضيا مؤثرا لا متأثرا يجادل ويحاور عوض الانزواء الذي يعيشه كثير منهم حتى إنه يستحي من كتابة فقرة صغيرة على تجربة ما على حسابه الافتراضي فلا تجد عنده إلا مشاركة ما هو جاهز من صور أو فيديوات وهو ما يجسد حالة غريبة من الكسل الذهني المرفق في حالات كثيرة بضعف تكويني مدقع.

كما أن اقتحام مجالات جديدة وتجسيد الأفكار الإبداعية والإقدام على تحقيقها مهمة أيضا ولا تخرج عن مجال المبادرة الذي نحن بصدده، وبغياب ذلك لا يرجى أن تتجاوز الحركة ضعفها على المستويات التي تعرضنا إليها سابقا، فبالمبادرة يصنع الإعلام الهادف ولو كان بوسائل بسيطة كالمدونات والتواصل مع المواقع والصحافيين حتى الاجانب منهم فلا تعدم بالمبادرة الحلول. وبها يمكن تجاوز النقائص في المجالات الخيرية والدعوية والإبداعية المختلفة ...
وعلى الحركة ان ترعى جميع المبادرات وتدفع بها نحو النجاح والارتقاء. ولعل المؤتمر القادم للحركة يحسم المشاكل الداخلية فيها ويدفع نحو توحيدها أكثر فيدعم الخطوات التي ستتخذ من الآن إلى حينئذ.

خلاصة :
إن أحسنت حركة النهضة اتخاذ القرارات السياسية والموازنة بين أخذ وجذب مع الحكومة فلا تقع في التطبيع بمعارضة كارتونية هزيلة تقف موقف المدافع دائما وأبدا أو شاهد زور في الحكم ولا مندفع نحو إعادة تكرير مواجهة التسعينات غير محسوبة العواقب. إن أحسنت في ذلك وزادت عليه إتقانها في ترتيب بيتها الداخلي وكسب المزيد من المساحات أفقيا في المجتمع فإنها تكون بذلك خطت خطوة كبيرة نحو الارتقاء لسدة الحكم بعد الانتخابات القادمة بحركة أكثر تماسكا وأقوى حنكة وأوسع تجربة وأضخم وزنا. خاصة أمام ما ينتظر الحزب الحاكم في الفترة المقبلة من المتاعب ومشاكل ينبغي أن يحلها. فقد تكون هذه الفترة أكبر منحة لحركة النهضة لتستغلها بتحسين وضعها والاستعداد لتجربة الحكم القادمة مستفيدة من تجربة حكمها الفارطة وأخطائها وتجربة معارضتها القادمة وكل ذلك في آن واحد.



mardi 7 octobre 2014

Des livres et des cours d'informatique à télécharger (Java, Html, PHP, ...)

  1. Apprendre Java et C++ en parallèle (Jean Bernard Boichat _ 630 page)
  2. Apprenez à programmer en java (Cyrille Herby _ 706 page)
  3. Conception de bases de données avec UML (Gilles Roy _ 534 page)
  4. Cours de C/C++ (Christian Casteyde _ 468 page)
  5. Cours C++ (François Laroussinie _ 193 page)
  6. Css3 for web designers (Dan Cederholm _ 133 page)
  7. Dynamisez vos sites web avec javascript (Johann Pardanaud et Sébastien de la Marck _ 377 page)
  8. Exercices en Java (Claude Delannoy _ 330 page)
  9. La programmation orientée objet (Hugues Bersini _ 630 page) 
  10. PHP 5 (Stéphane Mariel _ 287 page)
  11. PHP 5 cours et exercices (Jean Engels _ 662 page)
  12. Pratique de MySql et PHP (Philippe Rigaux _ 557 page)
  13. Flash Spécial Débutants (Mathieu Lavant _ 125 page)
  14. Le langage HTML (Eric Brassart _ 30 page)
  15. Javascript (Thierry Lecroq _ 48 page)
  16. Apprendre le Javascript (59 page)
  17. Php Mysql Javascript Html5 ALL IN ONE (Steven Suehring et Janet Valade _ 724 page)
  18. Php et Mysql maîtrisez le développement d'un site web dynamique et interactif (Olivier Heurtel _ 471 page)
  19. Réalisez votre site web avec Html5 et CSS3 (Mathieu Nebra _ 322 page)
  20. UML 2 en action de l'analyse des besoins à la conception (Pascal Roques et Franck Vallée _ 394 page)
  21. UML 2 par la pratique (Pascal Roques _ 364 page)
  22. Les astuces de windows vista (Jean-Paul Mesters _ 448 page)

jeudi 12 juin 2014

09- أحاديث على ضوء منهجية الفهم

في نقد السلفية وضرورة التجاوز

09- أحاديث على ضوء منهجية الفهم

إشارة لا بد منها :
إن السنة النبوية هي الأصل الثاني الذي يعتمده الفقيه في استنباط الأحكام. وإن كان القرآن متواترا محفوظا في الصدور والسطور فإن الحال يختلف مع السنة النبوية من حيث درجة التواتر والقوة. فإن توثيقها كان بعد فترة طويلة من العهد النبوي، مما يسر على المدلسين وضع الأحاديث ودسها على المسلمين. ومرد ذلك أن المسلمون في أوائل عهدهم لم يكونوا مقبلين إلا على القرآن والسنة معرضين على ما دون ذلك حتى ولو كان من اجتهاد العلماء والفقهاء (1)، فلم يكونوا يطمئنون إلا لما اتصل اتصالا وثيقا بالكتاب والسنة، فلم يجد المدلسون مدخلا لبث ما عندهم إلا عن طريق السنة النبوية. فبثوا فيها الحكم الهندية والزردتشية والأقوال النصرانية والإسرائيليات والأحكام الفقهية المفترات وغير ذلك.
لكن العلماء قد اهتموا بتحقيق الأسانيد وضبطها، وابتدعوا في ذلك مناهج قيمة لتمييز الأحاديث السقيمة من السليمة، وكان انتاجهم العلمي في هذا الموضوع عاليا فألفت الكتب ووضعت المناهج في ذلك. بيد أن الإنتاج العلمي في تحقيق متون الأحاديث كان أضعف وأقل حظا من تحقيق أسانيدها. مما جعل جوين بول صاحب مادة الحديث في دائرة المعارف يكتب فصلا بعنوان نقد المسلمين للحديث، فتناول فيه نقدهم للسند دون أن يتحدث بحرف عن نقدهم للمتن ومنهجهم فيه. وقد ذكر أحمد أمين في مؤلفاته فجر الإسلام وضحى الإسلام شيئا يحيل إلى القضية التي ذكرناها من طفرة شاسعة بين نقد السند ونقد المتن.
ولهذا فإننا نجد "الكلام في هذا الموضوع قليلا، حتى أن الذين مارسوا هذه الطريقة من النقد، قلما يتكلمون في أصولها ومناهجها، بل يكتفون بالكلام الذي فيه ممارسة لها فقط، بخلاف النقد الإسنادي وما يتعلق به من جرح وتعديل، واتصال وانقطاع، وما إلى ذلك، فإنه أشبع بحثا، وكتبت فيه الكتب الكثيرة، ولم يكتب في نقد المتن إلا النزر اليسير." (2)

إني أجد التنويه ضروريا على هذه المسألة، وأعدها تكملة للفصول السابقة وعلامة أخرى مؤكدة على أهمية فهم الحديث على ضوء الأصول الراسخة، فوجب إثر ذلك إلحاق الفروع بأصولها. وهو منهج السيدة عائشة رضي الله عنها التي كانت حريصة على الفهم ومقابلة الكتاب بالسنة وحريصة على عدم التعارض بينهما، حتى مارست ذلك البحث الاجتهادي بين يدي رسول الله لما سمعت حديثه "ليس أحد يحاسب حتى هلك" فاستشكل عليها الفهم وسألت الرسول صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى "فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا" حتى يجلي لها التعارض الذي لاح لها، فوضح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك "إنما ذلك العرض، ولكن من نوقش الحساب يهلك" (3) ومثلها حفصة رضي الله عنها وأرضاها لما سمعت "لا يدخل النار أحد ممن شهد بدرا والحديبية" فاستشكل عليها وقالت أليس الله يقول : وإن منكم إلا واردها. فأجابها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى "ثم ننجي الذين اتقوا ونذروا الظالمين فيها جثيا". (4)

حري بطلبة العلم أن يترسخ في أذهانهم هذا المنهج التحقيقي لما بين أيديهم من نصوص، وأن يرتبوا أذهانهم بالأصول أولا بأول، ويجعلوا المقاصد الشرعية في أعلى المراتب حتى لا يستشكل عليهم حديث طاعن فيها فيأخذوا به ويذروا ما أصّلت عليه تلك المقاصد أو الأصول أو ما علم من الدين واشتهر، أو مخالفة لما يتفق عليه العقلاء، أو مخالفة بين نصين فيكون القرآن الباب الأول للحكم على الأحاديث لتواتره وثبوته وقوته.
ووجه أهمية هذا أن بعض طلبة العلم يتهيبون من مخالفة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم غافلين عن دقائق الرواية، وحسبوا أن تحقيقهم للحديث متنا ثم فهمه على وجهه السليم إنما هو من قبيل الاعتراض على قول النبي ومخالفة أمره. وليس هذا النظر سليما، إذ أن الأخذ بالأحاديث الموضوعة والتساهل في تحقيقها أشد خطورة من التدقيق فيها وإنزالها محل النظر والتحقيق، ذلك أن إضافة حديث قد يساوي إضافة حكم، وحذف حديث قد يكون حذف حكم، وكلاهما شديد الخطورة، بيد أن الإضافة أشد، فإن نقص أثر من المدونة الحديثية الواسعة غالبا ما يهتدى في غيابه بأحاديث أخرى تؤدي معناه، أما الإضافة قد تكون بابا للطعن في الإسلام أو بابا لتعارض الحديث مع القرآن أو أحاديث أخرى أو إضافة حكم لا أثر آخر في موضوعه للبحث فيه أو تفسير آية على غير مرادها أو غير ذلك. "فالخوف من النقص إن لم يكن أقل من الآخر خطرا فهو إن شاء الله ليس أكثر منه، والله أعلم." (5). والمُلاحَظ في بعض طلبة العلم اليوم، أنهم يتساهلون في الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم دون تثبت، وهو من آفات المنهج الظاهري. فحسبوا أن النقل يغنيهم عن التحقيق والدراسة والبحث، وهذا من الطوام التي انتشرت وعمت. في حين ينبري أحدهم مدافعا مغوارا عن السنة النبوية إذا ما سمع أحد المحققين يدرس حديثا وينزله منزلة البحث والنظر فيشدد عليه وينكر أشد الإنكار. وما هذا إلا لخلل منهجي عندهم وتصور أن حمل الأحاديث على غير وجهها أو التساهل في قبولها سليم والتحقيق والنظر حسب القواعد العلمية هو محل الإشكال. فإلى الله المشتكى.

أسباب الوضع :
نستطيع أن نلخص أسباب الوضع في : تشويه الإسلام. الانتصار لمذهب، سياسي كان أو فقهي أو جغرافي. التوصل الى أغراض دنيوية، كالتقرب من الحكام، أو تجميع الناس حول الراوي وأكثر هؤلاء من القصاص. الترغيب والترهيب. وأسباب أخرى غير مقصودة كالوهم والغلط. كقول ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم (6)، أو رواية ثابت بن موسى حديث من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. وهذا السبب الأخير من الأسباب الدافعة والحاثة على نقد المتون والنظر فيها لأن سنده ورواته ثقات. ومن العوامل المساعدة على الوقوع في الوهم، قلة التدوين وتأخره، والرواية بالمعنى أيضا. ومن الأسباب غير المقصودة الدس في كتب الراوي وهو لا يشعر كما وقع لعبد الله بن صالح وقد كان له جار سوء، فدس المناكير في كتبه فقرأها الرجل، وهو في حد ذاته صدوق، ولم يشعر أنها مدسوسة. (7) حتى قال ابن الجوزي أن جماعة من السلف قد ابتلوا بمثل هذا. و الحقيقة أن التحقق من مثل هذه الأحاديث عسير جدا، إذ أن الناس لم يتعودوا على أحاديث موضوعة يرويها ثقات، وهذا يزيد مهمة تمييز الأحاديث بناء على المتن صعوبة. ويحتاج ذلك إضافة إلى الهمة العالية والفهم الدقيق في هذا المجال ومعرفة أحكام الدين، إلى إلمام بتاريخ كل عصر وأوضاعه السياسية والإجتماعية والإقتصادية مع معرفة بالأحاديث الموضوع التي انتشرت فيه، فإن الوضع غالبا لا يكون إلا لحاجة، مثل حديث "الهريسة تشد الظهر" فقد كان واضعه محمد بن الحجاج النخعي وكان يبيع الهريسة، أو كالأحاديث التي وضعت لنصرة أحد المذاهب أو احدى الفرق. لذلك فإن معرفة أسباب الوضع من الأهمية بمكان.

روى الرامهرمزي (8) بإسناده أنه قيل لشعبة : من أين تعلم أن الشيخ يكذب ؟ قال : "إذا روى عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها علمت أنه يكذب" (9)

ونقل الإمام السيوطي عن القاضي أبي بكر بن الطيب أنه قال : "إن من جملة دلائل الوضع أن يكون مخالفا للعقل، بحيث لا يقبل التأويل، ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة، أو أن يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية، أو السنة المتواترة، أو الإجتماع القطعي، ... أو يكون خبرا عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع، ثم لا ينقله منهم إلا واحد، ومنها بالإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير، أو الوعد العظيم على الفعل الحقير" (10).

وعليه، فإن الحديث، عند العلماء، يمر بمرحلتين ليستوفي شروط الصحة. الأولى هي مرحلة التثبت في السند، والثانية مرحلة النظر في المتن فلا يحتوي لا على علة قادحة ولا يكون شاذا. وهذه المرحلة الثانية يمكن أن نميز فيها أقساما من الحديث كالحديث الشاذ والمنكر والمقلوب والمدرج وغير ذلك (11). فإن ثبت الحديث واستوفى الشروط واعتمد فينبغي أن يفهم على ضوء المنهجية السليمة لفهم السنة النبوية. وهذا مما اعتمده وتحدث عنه الإمام محمد الغزالي رحمه الله في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث.

أحاديث للنظر والتدبر :

الحديث الأول :
عن بن بريدة عن أبيه قال كان حي من بني ليث من المدينة على ميلين وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه فأتاهم وعليه حلة فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في أموالكم ودمائكم ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان يخطبها فأرسل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال إن وجدته حيا وما أراك تجده حيا فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فأحرقه بالنار قال فجاءه فوجدته قد لدغته أفعى فمات فحرقه بالنار قال فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. (12)
وترى في الحديث أن الوضع على النبي صلى الله عليه وسلم أي الكذب عليه قد كان في عهد النبوة (13) وربما علم متلقو الحديث أن الرجل يكذب من وجهين، الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفرض القبول على المرأة وقومها وهم كارهون للرجل، والثاني أن ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وافق هواه ووافق ما جاء به في الجاهلية. ولعل السببين مجتمعين، أو أحدهما، حث هؤلاء على التأكد بنقدهم لما تلقوه عن الرجل، فبعثوا للرسول صلى الله عليه وسلم. فقد كان في المدينة منافقون لا يتورعون عن الكذب ولا ما أكبر منه إثما ومعصية، والتثبت والتبين من أوامر الله عز وجل للمؤمنين.

الحديث الثاني :
استدراك السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها على ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه في حديث "ولد الزنى شر الثلاثة" (14) وروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "لئن أقنع بسوط في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزنى" (15). وهنا تظهر مرة أخرى فطنة السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها وعرضها للحديث على القرآن الكريم وعلى أصل من أصول الدين وهو قوله تعالى "ولا تزر وازرة وزر أخرى" فكيف يكون ولد الزنى شر الثلاثة ولا وزر له في فسوق والديه وخطيئتهما ؟ وكيف يتفق هذا مع الآية القرآنية ؟ ثم أوردت السيدة عائشة الفهم السليم لما ذكره أبو هريرة وقالت "أساء سمعا فأساء إجابة". فذكرت السيدة عائشة أن حديث ولد الزنى شر الثلاثة إنما ورد في رجل من المنافقين كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل للرسول إنه على ما به ولد زنى، فقال : "هو شر الثلاثة". (16) وأما حديث الاعتاق فإنه لما نزل قوله تعالى فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة قيل يا رسول الله ما عندنا ما نعتق إلا أن أحدنا له الجارية السوداء تخدمه وتسعى عليه فلو أمرناهم فزنين، فجئن بأولاد فأعتقناهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم " لئن أقنع بسوط في سبيل الله، أحب إلي من أن آمر بالزنى، ثم أعتق الولد" (17) ومن هنا تدرك سبب قول أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها : رحم الله أبا هريرة، أساء سمعا فأساء إجابة.

الحديث الثالث :
عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "للمملوك أجران، والذي نفسي بيده، لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك" (18). وفي هذا الحديث بيّن حبان بن موسى عن ابن المبارك أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ينتهي إلى قول أجران، ثم قال "والذي نفس أبي هريرة بيده ..." فتبين أنه من قول أبو هريرة رضي الله عنه. إذ لا يجوز أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم تمنيا للرق، لكونها غير لائقة بمقام النبوة، وكذلك لم يكن له حينها أم يبرها. فعلمنا إذا أن جزء من الحديث مدرجا. (19)

الحديث الرابع :
روى الإمام مسلم أن فاطمة بنت قيس ذكرت أن زوجها أبا عمرو بن حفص، خرج مع علي بن أبي طالب إلى اليمن، فأرسل لها بأخر تطليقة كانت قد بقيت من طلاقها، وأمر بعض أقاربه بأداء شيء من النفقة إليها، فقالوا لها : ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا. فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت له قولهم، فقال لها : "لا نفقة لك ولا سكنى". وقد رد عمر بن الخطاب روايتها إذ أنه كان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة وقال : لا نترك كتاب الله، وسنة نبينا، بقول امرأة، لا ندري أحفظت أم نسيت. (20).
فقد أشار عمر بن الخطاب إلى قوله تعالى "أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن" ومراده بالسنة طريقة النبي صلى الله عليه وسلم العامة، أو أنه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم خلاف قول فاطمة. ولعل ما روته فاطمة عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو فهمها لإذنه لها بالانتقال من بيت زوجها، فحسبت ألا حق لها في السكنى وقرنت ذلك بالنفقة.

الحديث الخامس :
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : "الطيرة من الدار والمرأة والفرس" (21) فلما اخبرت عائشة رضي الله عنها بهذا غضبت، وطارت شقة منها في السماء وشقة في الأرض، وقالت : والذي أنزل الفرقان على محمد ما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، إنما قال كان أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك. ورواه ابن قتيبة مثل ذلك وزاد انها قرأت قوله تعالى "ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير" (22).
وواضح من كلام عائشة رضي الله عنها أن أبو هريرة رضي الله عنه سمع جزء من الحديث عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدث به. ولا يختلف اثنان في أن قول السيدة عائشة رضي الله عنها أوثق لروح القرآن ويتوافق مع الأحاديث التي تنهي عن التطير.
وأمثال هذه الأحاديث التي تخالف صريح القرآن ينبغي أن تدرك وتعلم، فإن في الأخذ به فتنة عظيمة لا يزيد إشعالها إلا سفهاء من حدثاء الأسنان ممن يطيرون بمتشابه الحديث وغرائبه إلى أصقاع الأرض زاعمين أنهم منافحون عن السنة النبوية وما حال هؤلاء إلا كحال حاطب ليل أعدم المنهج السليم.

الحديث السادس :
-         "الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة في الحبشة والجهاد والهجرة في المسلمين والمهاجرين بعدُ" (23)
-         "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم إثنان" (24)
-         "الناس تبع لقريش في هذا الأمر خيارهم تبع لخيارهم وشرارهم تبع لشرارهم" (25)
-        "الأئمة من قريش، أبرارُها أمراءُ أبرارِها، وفجارُها أمراءُ فجارِها، ولكلٍّ حق، فآتوا كلَّ ذي حقّ حقَّه، وإنْ أمّرتُ عليكم عبداً حبشياً مجدعاً، فاسمعوا له وأطيعوا، ما لم يُخيَّر أحدكم بين إسلامه وضربِ عنقه، فإنْ خُيرَ بين إسلامه وضرب عنقه فليقدّم عنقَه، فإنه لا دنيا له ولا آخرة بعد إسلامه" (26)
أما عن سند الأحاديث فإن بعضها ورد في الصحيحين وجمهور المحققين على أنها صحيحة خاصة أنها وردت بعدة روايات حتى قيل بأن الحديث نقل بالتواتر. (27) والإشكاليات المتعلقة بالحديث تتمحور حول مفهوم الإمامة ومعنى التبعية لقريش وتخصيصهم بالخلافة دون غيرهم في حين أن العارف بروح الإسلام يدرك أن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه، والتفضيل إنما يكون بحسب البلاء والجهد والعلم والتقوى فـ "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (28) وأحاديث تفيد هذا المعنى من مثل "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" (29). فهل تفيد الأحاديث أن القرشية شرط ضروري لا ينبغي إسقاطه في الإمامة العظمى، بمعنى أن القرشي الأقل علما وقدرة يقدم على غيره ممن هو أكثر منه أهلية ؟ أم أنه يفيد الأفضلية بحيث يقدم الثاني على القرشي الأقل منه أهلية، ويؤخر في حال استوائهما ؟ أم أن الحديث يفيد فترة زمنية محددة وهي ما اقتربت من فترة زمن النبوة وما اقترنت بشوكة قريش ووزنها في العرب ؟

لعل عرض تأويل وتفسير العلماء للحديث حسب التسلسل الزمني يساعد على فهمه وحسن استيعابه. فقد فهم لفظ الإمامة في الحديث على أنه إحالة إلى الإمامة العظمى، لا أي إمامة، فإن الإمامة قد تفيد الإقتداء في أي أمر خيرا كان أم شرا. ولكن حدث أن فسر بعد ذلك حسب بعض تلاميذ الشافعي على أن لفظ الإمامة غير مقيد بالإمامة العظمى فجعلوه دليلا على إمامة الشافعي وصحة مذهبه مقابل بقية الأئمة وفي قولهم تعقبهم القاضي العياض رحمه الله فقال "ولا حجة فيه، لأن المراد بالأئمة في هذه الأحاديث الخلفاء" (30). ثم تطور فهمه بعد ذلك ليشرحه الإمام النووي رحمه الله أنه دليل على أن الأمة تبع لقريش وأن مجدها باق ما بقي في الناس اثنان، وفعلا فإن الوضع كان كذلك إلى عهد الإمام النووي حتى آلت الخلافة إلى آل عثمان وتغير الحال فخالف اللاحق ما ظنه النووي رحمه الله وقطع به. وتعقبه الدكتور يحيى إسماعيل فقال : "ولأنها استمرت بحمد الله هكذا في قريش لم تقع في غيرهم حتى وقت حياته فقد ظن رحمه الله أن الريح ستكون على ما كانت فحمله هذا الظن على تأويل خولف." (31) وبهذا تفطن للقيد في بعض الروايات الأخرى من أن الخلافة فيهم ما أقاموا الدين وما إن استرحموا فرحموا وما إن عاهدوا وفوا وما إن حكموا عدلوا، فاستخلص المناوي رحمه الله من ذلك أن الحديث يفيد الإخبار وما يحدث لها في المستقبل. فهذا القيد أحال العلماء للتساؤل إن كانت صيغة الأحاديث الواردة تدل على الأمر أم هي للإخبار وبالتالي لا تترب عليها أحكام وهو ما اختاره الإمام المناوي في ما سبق ذكره. (32)

وهذا ما اختاره الشيخ عبد القادر عودة إذ قال : "إن الأحاديث كلها وردت بصيغة الخبر عدا حديث استقيموا لقريش ما استقامت لكم وحديث قدموا قريشا ولا تَقَدَّمُوها فإنهما وردا بصيغة الأمر. والأحاديث الواردة بصيغة الخبر ليست أحكاما وإنما هي أخبار عن حال قريش وما يحدث لها ومجموعها يفيد أن الإمامة ستكون فيهم ما أطاعوا الله ولو بقي من الناس اثنان، فإذا عصوا الله بعث عليهم من يقصيهم عنها. أما الحديثان الواردان بصيغة الأمر فقد جاءا ببيان ما يجب على الأمة من معاملة قريش ما دامت مستقيمة على أمر الله." (33)
والإجابة على هذا السؤال تعتبر مفصلية لإدراك هل أن الحديث يلزم المسلمين باختيار القرشي للإمامة أم أنه خبر يُرفع حكمه ؟ فإذا اختير الثاني جاز اختيار غير القرشي للإمامة، وإذا اختير الأول سألنا إن كان الأمر مختصا بزمن ومرتبط بعلة يزول الحكم بزوالها أم أنه باق لا ينسخ. كأن يكون مرتبطا بمجد قريش ومكانتها. وقد اختار المتقدمون القرشية كشرط في الإمامة لا بد منها. ثم اختار بعضهم أن يقدم العالم التقي غير القرشي على القرشي إن كان غير ذا دراية (الجويني رحمه الله)، فهنا طرح السؤال عما إذا اختلف عند رجلين النسب والحكمة أيهما تقدم على اختها. وخالفهم في ذلك المتأخرون وحملوه إما على أنه خبر وإما على أنه مقيد بشرط وخاص بمجد قريش والزمن القريب من عهد الصحابة، فاستقرئت الأحاديث في مجموعها وصيغتها كما سبق مع الشيخ عبد القادر عودة رحمه الله.
وقد أشار الإمام الطاهر بن عاشور لشيء من هذه التساؤلات بقوله : "ولم يستند لهذا الحديث أحد من الصحابة يوم السقيفة فهو حديث غريب وإن كان صحيحا ويحتمل أن يكون مسوقا مساق الخبر دون الأمر، وأيا ما فيه فقد وقع فيه قيد ما أقاموا الدين، على أن الأنساب قد داخلها من الاختلاط والادعاء ما يرفع اليقين بأن أحدا معينا من قريش." (34) ويؤكد ما أشار إليه الإمام الطاهر بن عاشور أن أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يوم السقيفة احتج بأن "العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش" ولو كانت الأحاديث بمثابة الأمر لالتزم الأنصار خاصة وبقية المسلمون عامة بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاحتج به القرشيون كحكم شرعي قبل أن يحتجوا بما هو من السياسة والحكمة وحسن إدارة الدولة.

ويسير ابن خلدون رحمه الله في تفسير تلك الأحاديث وفق نظريته في العصبية للقبيلة فيقول : "لأن قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب فيهم، وكان سائر العرب يعترف لهم بذلك، فلو جعل الأمراء من سواهم لتفرق لتوقع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم، ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكره، فتفترق الجماعة وتختلف الكلمة، والشرع محذر من ذلك حريص على اتفاقهم، بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش. لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم، فلا يخشى من أحد خلاف عليهم ولا فرقة، لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها، فاشترط نسبهم القرشي في هذا المنصب، وهم أهل العصبية القوية، ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة، وإذا انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع، أذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملة، ووطئت جنودهم قاصية البلاد كما وقع في أيام الفتوحات واستمر بعدها في الدولتين إلى أن اضمحل أمر الخلافة وتلاشت عصبية العرب. فإذا ثبت أن شرط القرشية إنما هو لدفع التنازع بما كان لهم من العصبية والغلب، وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة، علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية فرددناه إليها وطلبنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية، وهي وجود العصبية فاشترطنا في القائم على أمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية غالبة على من معها لعصرها، وإذا نظرت سر الله في الخلافة لم تعد هذا، لأنه سبحانه إنما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم عن مضارهم، وهو مخاطب بذلك، ولا يخاطب بالأمر إلا من له قدرة عليه، ثم إن الوجود شاهد بذلك، فإنه لا يقوم بأمر أمة أو جيل إلا من غلب عليهم وقل أن يكون الأمر الشرعي مخالفا للأمر الوجودي." (35) وهذا الرأي، أي رأي ابن خلدون، هو الذي تبناه أغلب المتأخرون من العلماء ممن جاؤوا بعده، فإن فيه وجاهة، إذ جمع بين السياسة والحكمة في عصور مجد قريش وبين التوافق مع روح الإسلام من نبذ التعصب للقبيلة وتمييز رجل على آخر بمجرد دافع النسب وبإطلاق. (36)

الحديث السابع :
قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "علموا أبناءكم السباحةَ والرمايةَ، ونعم لهو المؤمنة في بيتها المغزل، وإذا دعاك أبواك فأجب أمك" (37) وقال صلى الله عليه وسلم : "ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا" (38) وما روي موقوفا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن "علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل".(39).

قد يأخذ هذه الأحاديث ضعيف بصيرة، فيفهمه الفهم المعجمي، إذا اقتبسنا عبارة الإمام يوسف القرضاوي، فيعد النبال لأبناءه ويحضر الخيول حتى يعلمهم الرماية وركوب الخيل في عصر تسابقت فيه الهمم لتعلم العلوم الكونية والإنسانية والأخذ بزمام الحضارة من جوانبها كلها، بل لعله يطمح لإنشاء دار لتعليم هذه الأمور زاعما أنه من أولئك الذين احيوا سنة مهجورة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيطمح أن يكون له أجر مئة شهيد. ولعلك تجد تلك الدار في بلد تقف على تخوم حضارة آخرى قد جعلت دورا لتعليم علوم الذرة والنووي وآخر الدراسات في سباق التسلح الذي يشهده العالم اليوم، في حين يعلم صاحبنا أبناءنا الرمي بالنبال وركوب الخيل ! وقلبه قد شغف بداره، ولا يتحرك عقله إذا ما رأى دور غيره وما تعمل وتعلم. ففي عقله طفرة بين هذه وتلك، فإنه بتعليم النبال يظفر بأجر مئة شهيد، ولكنه لا يظفر بشيء إذا ما أنشأ جامعة لتخريج العلماء ! فالأولى أولى، زعم، أو هكذا أفتى له مخبول عقله.

وليس في تلك الرياضة شيء لمن أرادها، ولكن هذا الفهم يدمي القلب حين تؤخذ مثل هذه الأحاديث التي يقصد بها الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا عظيما، تراه يلقي بها في مجرد تعلم الرياضة لأنها رياضة، أو في أحسن الأحوال أن تجعل من قبيل السنة التي يقبل عليها الناس امتثالا لحديث النبي والأخذ به ظاهريا بالتفسير المقتصر على المعجم. وهذا الفهم الحرفي قد ذهب بألباب الكثير حتى جردوا الحديث عن إطاره الزماني والمكاني وجعلوا الأحاديث قسما واحدا. يكفيك أن تسمع ما تلوكه بعض الألسن من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تعمل به دون فهم ولا تدبر ولا إنزال في إطاره.

وإذا كنا نعلم أن اجتهاد هذه الفئة مرجوح ونسأل الله أن يثيبهم عليه بأجر، إلا أن اللامقبول هو حربهم الشعواء على جمهور العلماء المدافعين على السنة النبوية والشارحين لها على وجهها الصحيح، فما يلبثوا أن يجعلوهم محاربين للسنة منكرين لها كما حصل ذلك مع غير واحد ومنهم الإمام محمد الغزالي رحمه الله. فلا نملك إلا أن نقول : إن لم تستحي، فاصنع ما شئت. وليس مثل هذا التشنيع إلا بضاعة مهترئة من لغو لمن لا بضاعة علمية له.

والحقيقة أن تلك الأحاديث النبوية قد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حتى يقبلوا على تعلم الفنون القتالية ويطلبوها، وإن كان تعلم المبارزة بالسيف أمر لا يستحق إلى التذكير لأنه أدنى المراتب المطلوبة للمقاتل، فإن في تذكيرهم بركوب الخيل وتعلم الرماية وأمثالهما تنويه يجعلنا نفهم بعضا من الفنون التي حث النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة على تعليمها لأبناءهم منذ الصغر، فنفهم أنه قد وجد تقصيرا في ذلك فنوّه إليه أو ما في نحو هذا. فلا يكون الأمر النبوي بالتعليم منسحب على الأفراد، بله الجيوش، في عصورنا. (40)

الحديث الثامن :
"ما أسفل الكعبين من الإزار ففي النار" (41)
هذا حديث عام، تفسره أحاديث أخرى مفصلة أكثر فتقيده، مثل الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البخاري رحمه الله : "من جر ثوبه خيلاء ، لم ينظر الله إليه يوم القيامة. فقال أبو بكر : إن أحد شقي ثوبي يسترخي ، إلا أن أتعاهد ذلك منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لن تصنع ذلك خيلاء. " فكانت علة الحديث الموجبة للحكم هي التكبر والخيلاء، وقد كان من السائد حينها هذه الصفة الذميمة، فيجر الرجل ثوبه خيلاء متكبرا على ضعاف الحال ممن لم يجدوا رقعة يسترون بها عوراتهم. وهذا الذي قال به جمهور العلماء إلا الحنابلة فإنهم أطلقوا الحكم على كل من جر ثوبه. بيد أن الواضح من الحديث السابق ذكره وغيره من الأحاديث الصحيحة التي تنيط الحكم بالخيلاء والبطر تفيد أن الحكم لازم لمن اتصف بتلك الصفات الذميمة، ولو كانت بغير جر الإزار، أو في قميص، أو غير ذلك من أنواع التكبر المستحدثة في عصرنا، والله أعلم.

الحديث التاسع :
حديث : " انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال: رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوما، أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره ؟! قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره. " (42)
تأملت في هذا الحديث فوجدت الصحابي يستشكل ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ويستوضحه في مقصده. فقد وعى أن الإسلام يدعوا لنصرة المظلوم ويحث على ذلك، أما الظالم فأنى لنا أن ننصره ونرفع بنصرته ظلمه ؟! هكذا طرح الصحابي السؤال على الرسول صلى الله ولعله سؤال قد اختلط بشيء من التعجب. تخيلت لوهلة إن ورد الجزء الأول فقط من الحديث ونقل لنا، كتلك الأحاديث التي أسقط شيء منها، فهل يظهر من يحتج به لنصرة الظالمين ؟ لا أستغرب ذلك، فإن القفز على مقاصد الشرع وسماته العامة بسبب عدم وضوح في حديث غير مستغرب. والمطلوب، أن يفهم المسلم بفطرته السليمة من الأمر النبوي "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" أن نصرة المظلوم إنما تكون بمنعه وردعه عن الظلم "فإن ذلك نصره". وهكذا ترشده فطرته الإسلامية السليمة _ إن صح القول _ إلى الأحكام المرادة من الشرع بتوافقها مع سمته العام ومقاصده.

الحديث العاشر :
حديث : " ...  ورجل تصدق بصدقة وأخفاها حتى لم تعلم شماله ما أنفقت يمينه." (43)

ولا يراد بهذا الحديث ألا تعلم الشمال ما انفقت اليمين، فإن كلتا اليدين لا تعقلان ولا تريان، فلا حكمة لمن يخفي يدا عن الأخرى. وإنما المراد أن ينفق في الخفاء حتى لا يراه الناس، وهو أفضل الإنفاق. " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم". (44)

والله أعلم.
---------------------------------------------------------------------------------
1: كتاب منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي، صلاح الدين الإدلبي، ص58
2: كتاب منهج نقد المتن عند علماء الحديث للدكتور صلاح الدين الإدلبي، ص21
3: صحيح البخاري
4: صحيح مسلم
5: كتاب منهج نقد المتن عند علماء الحديث ص23
6: صحيح البخاري، ويخالف هذا الحديث ما روته ميمونة رضي الله عنها من أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوجها وبنى بها وهو حلال، رواه مسلم وأبي داوود والترمذي
7: ميزان الاعتدال للذهبي : 2 / 440 – 441
8: وهو أحد كبار المحدثين ممن قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل أنه أفقه من يحيى القطان
9: الرامهرمزي، المحدث الفاضل، ص316
10: تدريب الراوي للسيوطي 1/ 276 - 288
11: انظر كتاب منهج نقد المتن عند علماء الحديث، فصل أبواب المصطلح المشتملة على قواعد نقد المتن ص192 - 222
12: أخرجه الإمام ابن حجر العسقلاني في تلخيص الحبير في أحاديث الرافعي الكبير وذكر أن خلاصة حكم الحديث حسن، وقد ضعفه الإمام الذهبي. يقول الإمام ابن حجر "لا شك أن طريق أحمد ما بها بأس وشاهدها حديث بريدة فالحديث حسن".
13: لم يكن كحركة للوضع، ولكنه وضع فردي لم ينتشر، فإن الوضع كحركة بدأ بعد الفتنة الكبرى.
14: صححه الإمام الألباني.
15: رواه الحاكم في المستدرك.
16: الزركشي، الاجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة، صفحة 118 – 119
17: المرجع السابق، وهو أيضا من استدراك السيدة عائشة.
18: رواه الإمام البخاري.
19: ص 201 كتاب منهج نقد المتن عند علماء أهل الحديث.
20: رواه الإمام مسلم.
21: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داوود والترمذي، ومن الألفاظ التي اخرجوها "إنما الشؤم في ثلاث ..."، "إن يكن من الشؤم شيء حق ففي ...".
22: الآية 22 من سورة الحديد.
23: الجامع الصغير للإمام السيوطي رحمه الله، حديث حسن.
24: صحيح الإمام البخاري رحمه الله.
25: السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني رحمه الله.
26: صحيح الجامع للشيخ الألباني، وروي في جامع العلوم والحكم موقوفا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
27: انظر المبحث الأول في تخريج الحديث من دراسة تحليلية نقدية في شروح العلماء لحديث الأئمة من قريش لعودة عبد عودة عبد الله.
28: سورة الحجرات.
29: رواه مسلم، وإن كان الحديث عن الإمامة في الصلاة فإنه تدرك منه روح التعامل في الإسلام مع الأعلم وضرورة تقديمه فما بالك في ما هو أعلى شأنا من إمامة الصلاة، الإمامة العظمى
30: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 13/120.
31: يحيى إسماعيل، منهج السنة في العلاقة بين الحاكم والمحكوم ص274.
32: فيض القدير شرح الجامع الصغير 3/189.
33: الإسلام وأوضاعنا السياسية ص125، 126.
34: كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية.
35: المقدمة، ص195.
36: ومنهم من ذكر أنها شرط كمال لا شرط صحة، فخفف أثرها وجعلها بمثابة المستحب. لدراسة الأحاديث باستفاضة أكثر انظر "دراسة تحليلية نقدية في شروح العلماء لحديث الأئمة من قريش" لعودة عبد عودة عبد الله.
37: الإمام السيوطي، الجامع الصغير، حديث حسن. وذكره الزرقاني في مختصر المقاصد، حسن لغيره.
38: صححه الإمام السيوطي في الجامع الصغير، وصححه الإمام الألباني.
39: وقد ضعف العلماء هذا الحديث مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
40: لا يختلف هذا الحديث عن سابقه، فقرة الحديث السادس، فمن أزمنا بأن الأئمة من قريش أمر واجب، ألزمناه بوجوب تعلم رماية النبال !
41: صحيح الجامع للإمام الألباني.
42: صحيح البخاري.
43: حديث صحيح، ابن عبد البر في التمهيد.
44: سورة البقرة.

ملاحظة : لعلي أضيف أحاديث أخرى، متى يسر الله لي ذلك.