samedi 22 mars 2014

07- منهجية فهم النصوص الشرعية : قراءة في مقاصد الشريعة الإسلامية

في نقد السلفية وضرورة التجاوز

07- منهجية فهم النصوص الشرعية
قراءة في كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية للإمام محمد طاهر بن عاشور رحمه الله


طريقة هذا المقال

هذا المبحث مبحث عميق لا يغوص فيه إلا من كان ذا علم غزير، ولعل قلة المصنفات التي ألفت في هذا الموضوع تحيلك على أن هذا الباب على عظمته وأهميته إلا أنه بحر شديد التلاطم يحتاج إلى فقيه متمرس لدراسته. وقد خيرت أن يكون هذا المقال عبارة عن ملخص لأهم ما ذكره إمامنا وشيخنا الطاهر بن عاشور أساسا في كتابه الممتع مقاصد الشريعة الإسلامية مع الاهتداء أيضا بكتاب الإمام علال الفاسي رحمه الله مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها.
وفي هذا المقال حاولت تلخيص المبحثين الأولين اللذين ذكرهما الشيخ طاهر بن عاشور وهما : المبحث الأول، إثبات أن للشريعة الإسلامية مقاصد؛ والثاني، في المقصد العام من التشريع. دون التطرق للمبحث الثالث في المقاصد الخاصة بالمعاملات فخرجت منهما بأهم الأفكار والمعطيات ولم أقف مطولا على ذكر الأدلة التي عددها الإمام طيلة صفحات كتابه فإن الوقوف عليها يحتاج لتقص خاص ليس هذا مجاله.

الشيخ طاهر بن عاشور، الإمام المصلح والفقيه المجدد

لا بد أولا من التعرض لعلامة تونس الإمام الطاهر بن عاشور ومنهجه الإصلاحي، فرغم أن اسم الشيخ يغني على إطالة التعريف به، إلا أن الكثير من الناس لا يعرفون الأفكار الإصلاحية للشيخ الطاهر بن عاشور. فهو الفقيه الذي أعاد إحياء علم المقاصد أو كما يحلو للبعض تسميته الشاطبي المعاصر من خلال كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو صاحب المنهج الإصلاحي في التعليم من خلال كتابه أليس الصبح بقريب، وهو الشاعر الفذ ومفسر القرآن الكريم وفقيه تونس المالكي وعالمها.
ولا غرو في ذلك إذا علمنا أن الشيخ طاهر بن عاشور هو تلميذ الشيخ سالم بوحاجب الذي تتلخص آراءه في ضرورة التخلص من الجمود على التراث وملائمة مقاصد الشرع بمتطلبات الواقع والإعراض عن كثرة النقول في التدريس حتى تتكون لدى الطالب ملكة عقلية تتلقف القول فتعرضه على ما عنده من أدلة فيجمع بين إعمال العقل وبين البحث على الدليل. كما تأثر الشيخ الطاهر بالشيخ محمد عبده ومنهجه الإصلاحي ووطد معه العلاقة أثناء زيارته لتونس في 1903 وكذلك تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار التي كان الإقبال عليها شديدا من قبل النخبة الزيتونية حتى ذكر في المجلة أن العدد الواحد منها يقرؤه العشرات من التونسيين. فمن كان متأثرا بهؤلاء الثلاثة الأعلام فقد علم معدنه وكشف عن عمق فكره. (1)

ومما روي عن الشيخ طاهر بن عاشور محنته التي تعرض لها من قبل المقلدين، بل إن الشيخ قد أدان تفكير المعارضين للإصلاح الذي زعموا أن ما بين أيديهم هي الطريقة الوحيدة التي ارتقى بها سلفنا (2) فعاب عليهم تقديسهم لكل قديم وخوفهم من كل جديد حتى أنه "ارتسم في عقولهم أنها [أي ما بين أيديهم من أقوال وعلوم ومناهج هي] قصارى ما تبلغه عقول البشر ... وأن غاية الخلف ان يفهم كلام السلف، فإذا تعرضوا لمسألة استأسدوا لدفع كل ما خالف علمهم فيها مما أثمره كل البحث، حتى إذا اتضحت براهين المخالف، وعجزهم في الخطاب، قالوا هذا من قبيل السحر اللساني، أو السفسطة التي نسمع بها في كتب المنطق" (3). بل لقد هاجم الشيخ الطاهر بن عاشور من "كان همهم أن يوقفوا الناس عند ما بلغ إليه العلماء المتقدمون، فحجروا النظر وخوفوهم عواقب القول بالرأي، وألقوا في نفوس الحكام والملوك أن الخروج عن ذلك قيد شبر هو كالإلحاد في الدين وكفران لفضيلة العلماء الماضين، إلى كلمات لفقوها وأحاديث وضعوها، ورهبانية في تقديس المتقدمين ابتدعوها." (4) فلام على هؤلاء أنهم "لا يجعلون مباحثهم في التفاصيل والكيفيات بل يغلقون باب المباحثة، ويقاومون كل طلب للإصلاح ولو كان صوابا. وهذه طريقة الحذر تأتي من قلة غوص الأفهام في المساعي." (5)
 فهذه شذرات من بعض مواقفه رحمه الله تعالى وبعض أقواله حتى يعلم فكر الإمام ومنهجه الإصلاحي.

أهمية علم المقاصد واحتياجنا إليه مع علم الأصول

اشتبه على البعض فتلقى علم المقاصد تلقي المرتاب وكأنه دخيل على الشريعة الإسلامية، بل زعم بعضهم ذلك، وما وقع هذا إلا لإلتباس في أفهامهم وعدم تفريق بين العلم في ذاته وبين تدوينه. وانطلاقا من ذلك يجيب الإمام علال الفاسي رحمه الله على بعض المفكرين ممن ذكر أن علم المقاصد مصدر خارجي عن الشريعة الإسلامية وقع إقحامه فيها حتى تقع الملائمة مع العصر ويتم تجاوز الهفوة الفاصلة بين الفقه وأصوله وبين ما شيد من قوانين ونظريات في العصر الحالي، فيؤكد أن "مقاصد الشريعة الإسلامية ليست مقاصد خارجية للتشريع ولكنها من صميمها وهي جزء لا يتجزء من المصادر الأساسية." (6) كما يجيب عمن اشتبه عليه فزعم أن تدوينه وتفصيله مؤخرا إنما هو إثبات لإقحامه في مصادر التشريع، فمرد ذلك أن تدوين علم المقاصد إنما هو من قبيل تدوين علم الأصول وعلم العقيدة والفقه والحديث. فيقول"ليس بصحيح ما يطلق كون الأصول أو المبادئ قد ابتكرت من بعد وإنما الواقع أنها كانت مستعملة دون أن تستقرأ أو تدون في الصدر الأول، فاستقراؤها وتدوينها هو الجديد وهو فن يطلق عليه تخريج المناط ومعناه البحث عن علل الأحكام التي استنبطها الأئمة." (7)
أما الإختلاف بين أصول الفقه والمقاصد هو أن العلم الأول مقتصر على ما تؤول إليه "ألفاظ الشريعة في انفرادها واجتماعها وافتقارها" (8) فهو من قبيل البحث في الأحكام القياسية لا في علل الأحكام ومقاصدها. بينما علم المقاصد يهب لك من أدوات البحث في الشريعة الإسلامية ما يتجاوز الأحكام القياسية والألفاظ وما وراءها من مباحث إلى النظر في علل الأحكام ومقاصد التشريع. (9)

وقد ذكر الشيخ أن علم أصول الفقه ليس كافيا لحصر الخلاف بل إن دارس الأصول يجد أن الإختلاف فيه يبلغ معظم مسائله ويعزو الشيخ ذلك للإختلاف في الفروع الذي ترتب عليه إختلاف في الأصول، إذ أن الفقه فرع من هذا الأخير، وقد دوّن الفقه قبله بنحو قرنين فصاحَب ذلك اختلاف في الأصول وطرق الاستدلال عليه (10). ويرى الشيخ طاهر بن عاشور أن العلماء الذين أرادوا أن يجعلوا من علم الأصول علما قطعيا لا يتطرق إليه الاحتمال في ما تفرع عنه من قواعد كالسمعيات القطعية ذهبت محاولاتهم في ذلك هباء، فإننا "إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة" ! (11) ذلك أن حصر الخلاف في الأصول لن يكون إلا إذا تم حصر الخلاف في ما هو أشمل منه أي المقاصد، وهو من قبيل ما فعله العلماء من قبل فحصروا الخلاف في الفقه بتحديد أصوله وتضييق الخلاف فيها. فهذا مما نصنفه ضمن أهميات علم المقاصد.

كما أثبت الشيخ الطاهر بن عاشور في بداية قسمه الأول من الكتاب أن الله لا يشرع القوانين عبثا، وأن لكل حكم مقصد وقد ثبت ذلك بالأدلة القطعية من قبيل قوله تعالى "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ..." و"أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون" ولم يجعل الله الشرع إلا لإقامة نظام الناس. (12) فهذا يوجب إذا البحث عن علل الأحكام والمراد بها. فإذا ثبت "لنا اليقين أن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع، وهي حكم ومصالح ومنافع" (13) توجب علينا حينها البحث عنها واستقراءها من خلال النصوص.

كيف يتصرف الفقيه في النصوص ؟

يقع تصرف الفقيه في الشريعة وأدلتها لاستنباط الأحكام على خمسة أنحاء :
الأول، فهم أقوال الشريعة والاستفادة من مدلولات تلك الأقوال بحسب الاستدلال اللغوي وبحسب النقل الشرعي. والثاني، النظر في ما يعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد، فإن سلم دليله مما يعارضه أنفذه، وإن ألفى له معارضا نظر في كيفية العمل بالدليلين معا، وإن تعذّر رجح أحدهما على الآخر. وثالثا، قياس ما لم يرد حكم الشارع فيه على ما ورد فيه حكم بناء على مسالك العلة المبينة في علم أصول الفقه. ورابعا، إعطاء حكم لفعل حادث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا له نظير يقاس عليه. وخامسا، تلقي بعض أحكام الشريعة تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا مقاصدها، فيتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها، فيسمي هذا القسم التعبدي. (14)

والفقيه محتاج في كل ذلك إلى مقاصد الشريعة ذلك أن ما يصل إليه الفقيه لا ينبغي أن يحيد عن مقاصد الشرع. ويظهر ذلك خاصة في الطريقة الثانية والثالثة والرابعة، فإذا تعارض دليلين يمكن للفقيه أن يرجح أحدهما على الآخر بما لاح له من أن أحدهما "غير مناسب لأن يكون مقصودا للشارع على علاته" (15) وأما الطريقة الثالثة فإن علل الأحكام أبرز دليل على ابتغاء المقصد في سن الحكم فكانت القاعدة "العلة تدور مع الحكم وجودا وعدما" وأما الطريقة الرابعة فهي ما أثبت فيه الإمام مالك رحمه الله حجية المصالح المرسلة وهو ما أثبت فيه الفقهاء كذلك وجوب مراعات الكليات الضرورية وألحقوا بها الحاجية والتحسينية. (16)

طرق استقراء الفقيه للمقاصد

الطريق الأول وهو أعظمها يهدف إلى استقراء الشريعة في تصرفاتها وينقسم إلى نوعين. النوع الأول، استقراء العلل والحكمة من تشريع حكم ما، فإذا تواترت وتضافرت نتائج الاستقراء علمنا أنها من قبل المقاصد الشرعية، فهي مجموع جزئيات نستخلص منها حكما عاما تدور الجزئيات حوله. ومثال ذلك ما ذكر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه والنهي أن يسوم على سومه وعدم تناجي انثنان دون ثالثهما، فيعلم أن علة النهي في ذلك هي الوحشة التي تنشأ بين المسلمين فيستخلص أن من مقاصد الشريعة دوام الاخوة بينهم وجمعهم وتآلفهم. والنوع الثاني، استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة ما، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد من مقاصد الشارع. ومثاله ما ذكر من أحاديث في النهي عن احتكار الطعام و"من احتكر الطعام فهو خاطئ" (17) والنهي عن بيع الطعام بالطعام، فيستخلص أن المقصد من ذلك رواج الطعام وتيسير تناوله. ومنه أيضا كثرة الأمر بإعتاق الرقاب والذي يدلنا أن حصول الحرية مقصد من مقاصد الشارع. (18)
الطريق الثاني، أدلة القرآن واضحة الدلالة، فإن آيات القرآن متواترة بلا شك فإذا جمعت مع تواترها دلالتها القطعية تسنى لنا بناء مقصد شرعي على ما ظهر لنا، كقوله تعالى "والله لا يحب الفساد" أو "ولا تزر وازرة وزر أخرى" ...
الطريق الثالث، السنة المتواترة سواء أكان ذلك من قبيل التواتر المعنوي المشاهد عن عموم الصحابة رضوان الله عليهم كمثل ما يعرف بالحبس وما تركه الصحابة في المدينة من ذلك. أو كان عن طريق التواتر العملي كما روي في صحيح البخاري من أن أبي برزة قطع صلاته ليدرك فرسه فلما عُتب عليه روى ما رآه من تيسير عند الرسول صلى الله عليه وسلم ورجح سلامة قطعه الصلاة ثم العودة إليها على فقدانه فرسه وإدراك أهله ليلا، أي رجح أقل الخيارين ضررا، بناء على ما استقرأه من تيسير الرسول صلى الله عليه وسلم وما ورآه منه.

كما نقل الشيخ طاهر بن عاشور كلاما مهما للإمام الشاطبي، قد خالفا فيه رأي الظاهرية الذي يحيل إلى إلغاء المقاصد الشرعية فيزعمون أن مقصد الشرع غائب عنا حتى تأتينا النصوص التي تعرفنا به، فلا مقصد إلا من النص، ومآل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا. كما خالف فيه رأي الباطنية الذين زعموا أن ما يظهر من نصوص ليست مقصودة لذاتها ولو كانت قطعية وحملوا ذلك على كل الشريعة حتى لم يبقى منها شيء. ورجحا أن يقال بـ"الأمرين جميعا، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهذا الذي أمه أكثر العلماء." (19) (20). إذا فالإجتهاد وتتبع مقاصد الشريعة الإسلامية لا يعني الخروج عن الشريعة، فالرأي المبني على ذلك لا يقبل عند أهل الرأي أنفسهم إلا إذا كان مندرجا تحت أصل من أصول الشريعة الثابتة، كما أن تتبع المنهج الظاهري والأخذ بالنصوص دون تمحيص لا يثبت في ميزان الشرع فهو مرجوح أيضا. ولهذا تقعّد القواعد في هذه العلوم حتى لا تثبت عليها إلا الآراء المندرجة ضمن نطاق الشريعة وأحكامها المستنبطة جمعا بين النصوص وبين مقاصد الشارع فلا تخل بأي ركن من الأركان. (21)

الأدلة اللفظية الشرعية لا تستغني عن المقاصد

وجب التفريق بين الأحوال التي يصدر عليها قول أو فعل للرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أخذ كل قول على محمل واحد دون تفريق وتبين فعد الإمام الطاهر بن عاشور اثنا عشر حالا وجب التفريق بينها وضرب في كل حال منها مثالا لا يسعني ذكرها هنا فمن أراد ان يراجعها فليعد لكتابه. وقد اقتفى الإمام الطاهر بن عاشور أثر الإمام القرافي رحمه الله في ذلك. والأحوال التي ذكرها الإمام القرافي هي : التشريع، الفتوى والقضاء. وزاد عليها الإمام طاهر بن عاشور : الإمارة، الهدي، الصلح، الإشارة على المستشير، النصيحة، تكميل النفوس، تعليم الحقائق العالية، التأديب، والتجرد عن الإرشاد. (22)

فمن بين الأحاديث ما نعده ضمن واحد من تلك الأقسام، ومن بينها أيضا ما تنازع فيه العلماء ضمن أي قسم يندرج، هل كانت تصرفا بالفتوى أو تصرفا بالإمامة كقوله صلى الله عليه وسلم من أحيا أرضا مواتا فهي له وكقوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة "خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف" هل هو تصرف بالقضاء فيكون لزاما على من كان في مثل حالها التحاكم للقاضي أو كانت بالفتوى فلا يلزم بذلك. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم "من قتل قتيلا فله سلبه" .. ويضيف الإمام علال الفاسي على ما ذكره الإمام شهاب الدين القرافي والإمام طاهر بن عاشور قسم آخر وهو التصرفات الإنسانية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما "يأتي فيه الرسول بأفعال عادية جبلية تقتضيها دواعي الحياة البشرية وذلك كحالة الطعام والشراب واللباس والقيام والقعود ... ويدخل في هذا كل ما اجتهد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الأعمال الدنيوية غير مستند فيه إلى وحي" (23). والمهم أن نعلم أن الفقيه وجب عليه التفريق بين أنواع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يحسن الاستشهاد بها وهذا الباب لا يقل أهمية عن تفريق الحديث بين الحديث الصحيح والحديث الضعيف. وسيتم الحديث حول هذا في بابه.

ماهي المصلحة وماهي المفسدة ؟

إن الإصلاح هي الغاية الكبرى التي بعث من أجلها الأنبياء وشرع الله من أجلها الشرائع فـ"المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل ... والمراد بالإصلاح هنا إصلاح أحوال الناس لا مجرد صلاح العقيدة." (24) فالإصلاح مفهوم شامل يشمل العقيدة كما يشمل جميع نواحي الحياة فـ"لقد علمنا ان الشارع ما أراد من الإصلاح المنوّه به مجرد إصلاح العقيدة وصلاح العمل بالعبادة كما قد يتوهم، بل أراد منه [أيضا] صلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الإجتماعية فإن قوله تعالى : "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أنبأنا أن الفساد المحذر منه هنا هو إفساد موجودات هذا العالم." (25)

فكل إصلاح إذا يكون في جانب حصول المصلحة، وكل تقصير في الإصلاح أو تقهقر في سلمه يكون في جانب المفسدة. ويعرف الشيخ الطاهر بن عاشور المصلحة بأنها "وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع دائما أو غالبا، للجمهور أو للآحاد. فقولي دائما يشير إلى المصلحة الخالصة المطردة، وقولي أو غالبا يشير إلى المصلحة الراجحة في غالب الأحوال، وقولي للجمهور أو للآحاد إشارة إلى أنها قسمان ... وأما المفسدة فهي ما قابل المصلحة وهي وصف للفعل يحصل به الفساد أي الضر، دائما أو غالبا، للجمهور أو للآحاد." (26) وذكر أن فعلا إن غلبت فيه المصلحة على المفسدة ألحق بعداد المصالح، وإن كانت الأخرى جعل من قبيل المفاسد. (27)

كما ذكر الشيخ طاهر بن عاشور أن المنهيات مرتبة ومتفاوتة كالمصالح، فقد ذكر في القرآن الفواحش والكبائر واللمم (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) كما ذكر الإثم والبغي (قل إنما حرم ربي الفواحش ...) وجاء وصف المنهيات بأن بعضها أكبر من بعض "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ..." (28). وكان ذلك دافعا للصحابة للقياس على ما لم ترد فيه حدود مما كان أشد من الزنا أو قذف المحصنات كشرب الخمر وغيره. (29)

ومن القواعد التي حددها الإمام علال الفاسي رحمه الله لقواعد تقييد المصلحة بالمقاصد :
- تحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام.
- إذا عارضت المصلحة مفسدة فإن دفع المفسدة مقدم وهذا معروف بلفظ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. (ذلك إن كانت المفسدة مساوية للمصلحة أو أكبر منها، فإن الفعل يكون في عداد المفاسد، وإلا كان من قبيل المصلحة كما ذكر في تعريف الإمام طاهر بن عاشور)
- اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها لأن الله شرع في كل تصرف من التصرفات ما يحصل مقاصده ويوفر مصالحه. وهذه القاعدة تعني أن الأحكام التي قررتها الشريعة تقصد لتحقيق غاية ومصلحة، ويظهر ذلك جليا في باب المعاملات، وهذه قاعدة نقلها علال الفاسي عن العز بن عبد السلام وضرب لها مجموعة من الأمثلة. ثم قال "لا نريد من ذكر هذه القواعد المقيدة للمصلحة حصرها واستقراءها، وإنما نريد أن ننبه إلى أن المصلحة لا تتعدى مجالها. ولا تعتبر إلا إذا لم يكن هنالك من الشارع ما يدل على إلغاءها، أو تقديم مصلحة أخرى عليها أو درء مفسدة قبلها." (30)



(1) صفحة 361، 362 و363 كتاب الشيخ طاهر بن عاشور وإسهامه في تجديد الفكر الديني
(2) أليس الصبح بقريب ص 230
(3) كتاب الشيخ طاهر بن عاشور وإسهامه في تجديد الفكر الديني ص380 و381
(4) من مقال الشيخ محمد الحبيب بن خوجة في مجلة جوهرة الاسلام العدد 43 سنة 1979
(5) كتاب أليس الصبح بقريب للإمام الطاهر بن عاشور ص109 و110
(6) مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها، الإمام علال الفاسي ص45
(7) المرجع السابق ص54 و55
(8) مقاصد الشريعة الإسلامية، الإمام الطاهر بن عاشور ص167
(9) المرجع السابق ص167
(10) المرجع السابق ص166
(11) المرجع السابق ص172
(12) المرجع السابق ص179
(13) المرجع السابق ص246
(14) سمي بالقسم التعبدي ذلك أن كل ما يدور في هذا القسم مما تدق علله أو تخفى علينا كسبب اختلاف الركعات بين الصلوات وهذا القسم مما لا تذكر علة الحكم في دليله الشرعي فيؤخذ كما هو ونسلم به. في حين أن قسم المعاملات والسياسة الشرعية علتها واضحة وهي إقامة النظام للناس وحفظه وإصلاح أحوال المجتمع، فيكون هذا القسم مقصده واضحا ظاهرا بخلاف القسم التعبدي. وقد خصص الشيخ الطاهر بن عاشور المبحث الثالث من كتابه لدراسة هذا القسم
(15) المرجع السابق ص185
(16) المرجع السابق ص 183 و184
(17) رواه الإمام مسلم
(18) مقاصد الشريعة الإسلامية، الإمام الطاهر بن عاشور، ص193
(19) المرجع السابق ص195
(20) المرجع السابق، فصل طرق استقراء مقاصد الشريعة
(21) مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها، الإمام علال الفاسي، ص54
(22) مقاصد الشريعة الإسلامية، الإمام الطاهر بن عاشور، ص212
(23) مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها، الإمام علال الفاسي، ص116
(24) المرجع السابق، ص45 و46
(25) مقاصد الشريعة الإسلامية، الإمام الطاهر بن عاشور، ص285
(26) المرجع السابق، ص279 و280
(27) المرجع السابق، نقله الإمام الطاهر بن عاشور عن الإمام الشاطبي في ص282 ووافقه عليه.
(28) المرجع السابق، ص290
(29) المرجع السابق، ص291
(30) مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها، الإمام علال الفاسي رحمه الله، ص187



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.