lundi 30 avril 2012

أبناء المشروع الإسلامي في مهب الريح - الجزء الثاني


ذكرت في المقال السابق منهجية التربية الإسلامية وبناء الفرد المسلم،والذي يمثل دعامة الأسرة والمجتمع وماترتب بسبب غياب هذه المنهجية من إخلالات لا نبالغ إن قلنا أنها خطيرة وينبغي النظر إليها بجدية لمعالجتها، وهي في الحقيقة متوقعة لكل متابع واع بحال بلداننا فهو أمر عادي ناجم عن سياسة عقود ماضية من خلال تجفيف المنابع وفي أحسن الاحوال تلويثها والانخراط في السباق الإنتخابي إثر الثورة. وقد ذكرت أن الخلل في هذه المنهجية ينتج عنه خلل متسلسل في بقية الحلقات المرتبطة به، فكان من ذلك ضبابية في فهم وتصور المشروع الإسلامي لدى العديد من إخواننا والإهتمام بقضايا هامشية على حساب قضايا ذات أهمية قصوى وتشابك الأفكار التي نلتمسها جلية في شتى الحوارات مما نتج عنه عدم فاعلية لا في الحوارات المباشرة ولا في السجال في المواقع الإجتماعية فمثل ذلك صورة سوداوية لدى عامة الشعب حتى تخيل البعض أن الإيديولوجية مصطنعة لإلهاء الشعب والسجال السياسي لا يهدف لمشروع وإنما يهدف لوراثة الكرسي، فضلا عن الإهتمام بالجانب السياسي على حساب الفكري والتربوي والذي زاد في تعميق الأزمة ولعلي أزيد توضيح بعض الأفكار في هذا المقال وأتناول الموضوع بأكثر دقة مع ذكر جوانب أخرى وأمثلة واقعية.

أبناء المشروع الإسلامي ينقسمون إلى عدة تيارات تختلف في طرحها وتتباين في سبل التغيير التي تتبناها وكل منهم يسعى حسب اجتهاد العلماء والفقهاء الذين يثق بهم لتنزيل المرجعية الإسلامية على الواقع. وكل متتبع يعلم علم اليقين أن الإختلاف في التاريخ الإسلامي كان خلال فترات عديدة معينا لا ينضب لتجديد الفكر والتلاقح الناجم عنه التطور الذي يضمن مواكبة الزمن فكل جامد يندثر وكل ثابت يضمحل ولا يحدث التطور إلا بتعدد المدارس وتعدد الرؤى وتنوعها، ولذلك ورثنا في المكتبة الإسلامية عددا مهما من مجلدات تفسير القرآن مع أن القرآن واحد، فمثلت هذه المدارس ضامنا أساسيا في إثراء الفكر الإسلامي وتطوير الحضارة الإسلامية ولكن كان ذلك متعلقا بعلة إذا غابت غاب التطور ورزخ الحال حينها لا إلى الجمود فقط بل إلى التقهقر والتراجع. وفعلا كان هذا واقعا ملموسا عاشه المسلمون لمّا غابت هذه العلة، ألا وهي فقه الخلاف. إن المتتبع لمناظرات العلماء داخل المدرسة الإسلامية ينهل من الأخلاق قبل العلم وكما تعلمنا منهم "نحن بحاجة إلى قليل من الأخلاق أحوج منا إلى كثير من العلم" ندرك تماما أن الإختلاف حينها لا بد وأن يكون رحمة، كما قلت ليحصل التطور، وفي حال غياب هذا الفقه، فقه الخلاف، والذي نعني به حسن إدارة الخلاف في ما بيننا وحسن التعامل مع المخالف والمجادلة بالتي هي أحسن، في حال غيابه يحصل المحظور ويكون الإختلاف نقمة لا نعمة فنسترجع بذلك ذكريات حرق الكتب والمراجع والتنكيل بالمسلمين فضلا عن المشاهد الدموية في تاريخنا من إبادات لمجرد اختلاف بيننا وتقسيم في كياننا إلى معسكرات عدة بسبب بعض هذه الاختلافات رغم اجماع الكل على أن الفرقة بين المسلمين محرمة ولكن تغيب مواطن الإجماع إذا ما غاب فقه الخلاف فترتفع أسهم حمية الجاهلية لدى بعضنا لتجعل من أواصر الاخوة التي وثقها الإسلام هباء منثورا، وتكون عقيدة الولاء والبراء بين المسلمين أنفسهم وتستحل في ما بينهم البين ولكن يهذب تحت مسمى آخر : مخالفي مبتدع ويجوز هجره طالما أصر على بدعته. ويقذف كل واحد منهم الآخر بأنه يبدي ما لا يبطن ويجعله ممن قال الله فيهم "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" وكأن أصحابنا لم يدركوا بعد أن من سنن الله في هذه الحياة الاختلاف ويعتقدون أن ما يملكونه هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فيألّهون أنفسهم لنجد بين أيدينا حينها "ثيوقراطيين" وخزنة لجهنم لا دعاة. وقد روي لنا "إلتمس لأخيك سبعين عذرا" وإن لم تجد فقل عسى أن له عذرا لم أعرفه، ولكن ما يحصل الآن هو عكس ذلك تماما، أسئ الظن في أخيك مطلقا حتى تعتقد أنه يبدي ما لا يخفي، ولا شك أن ذلك مرده الغرور والتعصب للرأي وقلة العلم فكلما زاد علم الفرد منا قل إنكاره. أليس هذا من ثمرات ما تطرقت إليه في المقال السابق ؟ غياب المنهج عنا ؟ إذا نحن نحصد الثمرة وهي بلا شك ثمرة من زقوم.

من حصيلة هذا الأمر أن يقع شرخ بين الإسلاميين حتى أنك تسمع عن من يهجر أخاه الذي قضى معه صباه لاختلاف نشب بينهما. وقليلا ما نسمع عن توازن في الحوار وتناغم بين المختلفين بيننا للأسف، وإذا أضفت إلى ذلك تردّي الأخلاق وتدهورها زاد الطين بلة وتدهور الوضع من سيء إلى أسوء.

ووازى كل هذا التعصب للرأي والتشبث به وليته كان تشبث بعد تمحيص بل هو التعصب الأعمى دون بحث ولا تدقيق، اللهم إلا نظرة سريعة على صفحات الفايسبوك والنهل من غزارة العلم الذي فيها، فحدث التحزب المذموم. ولا يعني التحزب ما يفهمه البعض "الإنخراط في حزب" فأن تكون منخرطا تحت لواء حزب لا يعني هذا فقدانك لشخصيتك ودفاعك الأعمى عن الحزب بل إن ذلك يعني أن الحزب الذي انخرطت فيه هو الأقرب إليك فكريا. ولا شك أن العمل الجماعي هو مجموعة تصورات ورؤى المجموعة كلها المتفق عليها دون أن يفقد كل فرد من المجموعة ذاته وفكره الخاص وتصوراته التي يمكن أن يخالف فيها بقية اخوانه، وهذا من معاني الشورى، والعمل الحزبي مندرج ضمن العمل الجماعي ويخضع للشورى والتوافق. فينبغي أن يُنتبه إلى أن كل صاحب فكر هو بالضرورة متحزب له وكل متبع لقائد أو مقلد لإمام هو متحزب له وهكذا ... والمعرة في ذلك أن يكون التتبعُ تتبع أعمى والتقليد دون تبصر والدفاعُ دفاعٌ عاطفي خاوٍ من كل منطق ومنهجية ولم يكن هذا أبدا منهجنا، بل تعلمنا من كتب العقيدة الولاء لله والبراء من الشيطان، الولاء للحق والبراء من الباطل، وما نتعلمه من كتب المحدثين في أول الاحاديث هو حديث النية والإخلاص للمولى عز وجل، وما نتعلمه من كتب فقهائنا ومفكرينا هو الدفاع عن الحقيقة لتسوية الأوضاع، ولا شك أن يكون نتاج ذلك حزب هدفه الأول والأخير تصحيح ما حوله من أخطاء ولا يستوي البتة أن يغيب هذا الهدف على أعضائه لإصلاح الحزب ذاته ان حاد عن سواء السبيل دون مواربة ولا خشية من الحقيقة فإن لم نفلح في إصلاح أخطائنا فمن باب أولى أننا أفشل في إصلاح ما حولنا. وللأسف يزعم البعض أنه يمكنه ان يكون ثوريا داخل مؤسسات الحزب (أو الجماعة، اخوانك في المنهج ...) مبررا خانعا خارجها (أمام مخالفيك). ومن نتائج السياسة التبريرية أن قتلت النقد الذاتي وتطوير الذات بل تعدى الأمر ذلك لتكون سياسة النقد الغائبة سدا ضد من يبغي التعرف عن المنهج ذاته وصورة من صور التحزب المذموم الذي يقتل الإسلاميين ويصهر شخصياتهم ويحجبها فيكون تأثيرها تأثيرا سلبيا وكما قيل من ثمارهم تعرفونهم ويضر بذلك الحزب أو الجماعة ولو كان داخلهما حراك قوي وتناقش وآراء متباينة. ولا ينبغي أن يُفهم هذا على أنه خرق لمعنى "الإنضباط الحركي" فإن الإنضباط الحركي لا يعني أن تنافق نفسك وتدافع عن قناعات ليست قناعاتك ولا يعني أبدا أن تردف الحجج وأشباهها أمام مخالفيك ثم تردف حجج مخالفيك أمام قيادات جماعتك وكبرائها، ومتى كان الإنضباط الحركي يعني إنفصام في الشخصية ؟ لا حاجة للجماعة إليك إن كنت دون رأي تميل مع كل ريح بل مع كل نسيم.

أما في الجانب المقابل فتجد من يشكلون المعارضة من أجل المعارضة، المعارضة لكل شيء، ينطلقون من تصورات طوباوية لإصلاح وضع جاهلي ويعتقدون أن الإصلاح إنما هو إصلاح ساعة أو أقل وأغلبهم هؤلاء لم يحسنوا إلا الهدم ولم يفلحوا في البناء لذلك لم يتقنوا إلا الطعن وعدم الرضا احترفوا النقد حتى إذا ما سألتهم عن البديل و"ما العمل ؟" وهو السؤال البديهي لإصلاح الأوضاع وتغييرها لم ينطق ببنت شفة، ولم يكن المشروع الإسلامي مشروع شعارات بل هو مشروع برامج وإحسان وإتقان في التغيير ومعرفة فقه التنزيل وفقه الواقع.

ستظل القواعد الشعبية للإسلاميين لغزا شائك إلى حين ترتيب أولياتها وتثقيفها فكريا حتى تبتعد عن التحركات المرتكزة على العاطفة وتزن المواقف بعواقبها، دون أن تغفل عن فقه الأولويات والموازنات. من الغريب أن تجد أحدنا في حياته الخاصة يتقن التصرف بحكمة ويعرف البقاع السوداء التي ينبغي تجنبها من البيضاء التي يطأها ويقف عليها ولكن ما إن تتشابك هذه المواقف مع الجانب الديني والقدسي في نفسه حتى تختل الموازين وتعلو القضايا الهامشية على حساب القضايا المرحلية الضرورية، أليس من الغريب أن تنتفض هذه القواعد من أجل كاريكاتور في حين أنها لا تنتفض من أجل موت إنسان جائع ؟ أليس من الغريب أن تحارب "خرقة" يعتبرها شعب بأكمله رمزا لتمكن خصمك من التشنيع عليك في حين أنك تدرك أنك لن تجني من ذلك شيئا سوى الوبال الإعلامي ؟ إن المشروع الإسلامي ينبغي أن يغرس لدينا بإعتباره ضروريات ثم حاجيات ثم تحسينات ولا ينبغي أن يختل هذا الترتيب فضلا عن اختزال المشروع الإسلامي في فولكلورات حتى لا نصبح إمتدادا لصوفية مقيتة. وينبغي أن تفهم قواعد الإسلاميين كلها من أولها لآخرها ويغرس عندها كعقيدة أن العمل الجمعياتي، الفكري، الدعوي (إلخ...) والتي تمثل كل واحدة فيها ركيزة مهمة في العمل الإسلامي الذي نفهمه على أنه شامل لجميع جوانب الحياة، ينبغي أن يعلموا أن ملأ هذه الجوانب أصبح ضرورة ملحة لتخطي التجاوزات الحاصلة وتعبئة الفراغات التي لا يزال العمل الإسلامي يشكوا منها. وينبغي أن يعلم الإسلاميون أنه من الخطر بمكان أن يكونوا أرقاما تحسب في فرز الأصوات، أصفارا في سائر الأوقات.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.