lundi 26 décembre 2011

الإسلاميون بين الثورة والحكم

كثيرا ما كان مصطلح "الإسلاميون" يرتبط بالمعاناة والجهاد والمصابرة والتشبث بحبال المقاومة والتمرد على واقع بلداننا الميتة، حتى صاروا رمزا للنضال وقمة الثورية، ويكفي أن كلمة "خوانجي" في تونس كثيرا ما نُطق على أثرها مباشرة "اُسكت وإلا توزرنا" فللفظ دلالاته في مخيلة الشعب وله أبعاده العميقة التي تمتد من فترة الاستعمار إلى مقاومة أذياله إلى المشاركة في الثورات العربية اليوم. هذا المسار الطويل كان له أبعاده في الفكر الإسلامي بصفة عامة حيث أنه كثيرا ما اتسم بـ"لذة" المقاومة، كما يرونها، وأهمية قول كلمة الحق عند السلطان الجائر حتى أنهم اعتبروا هذا العمل هو بمثابة إحياء أمة وهو من اهم أنواع الجهاد، أن تكون في أول صفوف مقاومة الظالمين والدفاع على حق المظلومين. أدّى هذا الحس الثوري لنحت شخصية الإسلامي حتى كادت أن تكون هويته هي "الرفض"، رفض جميع أشكال الظلم، رفض الواقع، رفض العمالة والخيانة والتواطئ ورفض السكوت على الحق، فالإسلامي الحق هو من لا يخاف لومة لائم. وقد أحسن محمد مختار الشنقيطي حين عبر عن هذا بقوله "الإسلاميون أقوياء في التمنّع"

بهذا المنطق نزل الإسلاميون بين من نزل خلال الثورات العربية وساهموا فيها من داخلها، فهذا ميدانهم وتلك ساحاتهم وخلف قضبان السجون أبنائهم وفي القصور الشاهقة جلادهم الأكبر، قطعا سيكونون في مقدمة الثائرين فالصفقة مع النضال لا تزال قائمة إلى يوم يبعثون. وبعد الثورات، استحقوا بجدراة الفوز بثقة الشعب وترشيحهم لمنصة الحكم. وأخيرا تصدر الثائرون منصة التتويج ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل يصلح الثائر للبناء ؟ هل يستطيع من تمرس على الهدم أن يشرع في بناء دولة ؟ لا أشك البتة في القيمة العلمية للإسلاميين فالجلاد عرف حق المعرفة من يسجن إذ انه سجن أصحاب الفكر والقلم والكلمة التي تحدث رجة في نفوس الشعب، سجن كفاءات علمية وقيمة فكرية كبيرة وأقسم عليها ألا ترى النور، فالرجل الذي تختلط بداخله القيمة العلمية مع شجاعة الثائرين يشكل عقبة حقيقية امام النظام البائد، فعرف رأس الفساد عندنا أن القضاء عليهم هو الأساس الصلب الذي سيمكنه من الوقوف على الجثث الحية من أبناء هذا الشعب وترك في من ترك ثائرين لم يعرفوا الطريق الصحيح الذي يؤدي لقلب النظام فوقعوا في شراكه عند أول محاولة للظهور، وترك علماء عملاء كثيرا ما كان من خصالهم الكذب والنفاق وتزييف الحقائق، فما أغنى علمهم عنهم شيئا. لكننا اليوم نقف أمام مشهد آخر، فمساجين الأمس الثائرون صاروا إلى الحكم وأزلام كثيرة من المهادنين للنظام السابق لا تزال تمسك بمفاصل قوية في الدولة. لا أشك أن قيم الحكومة الحالية ستكون مخالفة للحكومات السابقة ولا مجال للمقارنة بينهم، تختلف العديد من الأمور الذاتية والقيمية وحتى العملية ويساهم واقع ما بعد الثورات ورقابة المجتمع الذي نسي كلمة الخوف والمتطلع للحرية والتقدم وتجاوز كبوات الماضي كل ذلك يساهم في استقامة حكومتنا الحالية ويذكرهم بالمطلوب منهم والمرجوا من عملهم، يذكرهم أنهم من الشعب وجزء منه ومطلوب منهم النزول للشارع، يذكرهم انهم خدام للشعب ومطلوب منهم الاستماع للمواطن البسيط ويبعث موجات قوية تتردد داخل أركان وزاراتهم من حين إلى آخر أن لقد انتهى عصر رخاء الحكومات واستمتاعها بآلام شعوبها في قصورها الفاخرة. كل هذه الامور اعتبرها في صالح الإسلاميين اليوم ولا أخشى منها شيئا وكل هذا سيدفع الإسلاميين لإثبات جدارتهم بثقة الشعب فأنا متيقن من قدرتهم على تقديم صورة ممتازة للعمل الإسلامي كما كتبوا عنها في كتبهم وتلقيناها وتعلمناها منهم. لكن الذي أخشاه على الإسلاميين بصفة عامة، رموزا وقواعد، أن يستلهموا من منطق الثورة قبسا ليضعوه في محل منطق الحكومة، فيفسدوا عملهم ويثبتوا فشلهم، وهو أمر ليس بهين خاصة عند قواعد الحركات الإسلامية وهو ما ينذر بالفشل الذريع في الموازنة بين ما يستعمل من سلاح في كل مكان، السلاح الذي سيؤدي للنجاح يختلف من مكان إلى آخر وعلينا إيجاد تلك الموازنة التي ستكسبنا الفوز في معركة الإصلاح، الموازنة بين استلهام هويتنا الثورية ورفع شعار المحاسبة قبل المصالحة وبين المهادنة والنفاق، الموازنة بين إصلاح احوالنا وبين الزج بالبلاد في صراعات داخلية متعددة الأطراف، الموازنة بين إقامة العدل بين الناس وبين مهادنة الظالمين، الموازنة بين الحفاظ على هدوء المجتمع الدولي وبين إثارة وتأليبهم علينا، ثم في الأخير الموازنة بين الحفاظ على رأي الشعب وثقتهم وبين إرسال رسائل موجعة لهم توحي إليهم أن الإسلاميين قد حادوا وبدلوا بعد أن فتح الله عليهم، نعم، الموازنة صعبة ولكن علينا إيجاد ذلك الخيط الدقيق الذي يفصل بين هويتنا التي تمرسنا عليها منذ زمن وبين ما كنا نراه مصدر بلاء للبلاد والعباد، بين الثورة وبين الحكومة، ألا تسقط على رؤوسنا وتخسر البلاد أولا وأخيرا.


 لا يزال يحاول الإسلاميون استيعاب أنهم صاروا أهل السلطة وفي حين أنهم لا يزالون يفتحون أعينهم أمام واقع مغاير ومعسكر ليس بالمعسكر الذي اعتادوا عليه يجدون جنودا بين أيديهم كانت في السابق تجلدهم والملفات التي بين أيديهم لا آخر لها، رحل النظام السابق ولم يرث الإسلاميون منه إلا وكر الفساد. إن أصحاب القرار يعلمون علم اليقين أنهم أمام رقعة شطرنج، كل حركة ينبغي ان تحسب لها ألف حساب، وفي حين أننا نعرف اللاعب الأول تتحرك البيادق المقابلة وحدها بطريقة غير منتظمة وعشوائية أو لنقل أننا نقف أمام عدة لاعبين من الجانب المقابل وأخطر ما في الأمر أننا نجهل هويتهم. كل حركة خاطئة يمكن أن تدمر حكومتك فالأطراف المقابلة لن تخسر شيئا بل المواطن البسيط هو الخاسر وسيكون الإسلاميون في الواجهة وستوجه لهم أصابع الاتهام من جميع الاطراف حتى تلك الأطراف المجهولة نفسها. يقع الإسلاميون اليوم في بحر من الضغوطات لا حصر لها، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي وكلاهما خطير ولكن يبقى الاخطر على الإطلاق أن يكون الضغط من داخل التيار الإسلامي نفسه فتتشتت الجهود وتذهب ريحنا سدى، وقد بدأ هذا بالتراكم فعلا ولا يمكن إيقافه إلا ببعض التعقل من جميع الأطراف وفهم الواقع الذي يفرض علينا الدخول لجحر الضب بحذر والأهم من ذلك عدم وقوع أصحاب القرار في الشبهات التي يمكن أن تكون عقباها لا تحمد، السياسي المتميز هو من يقرأ التحديات القادمة ويحاول تجنبها بمناورة من شأنها ان تخفف التحدي أو تزيحها والسياسي الفاشل هو الذي يقرأ التحدي القادم ويحاول تجنبها بمناورة توقعه في تحد أكبر وأعمق بل ربما تفتح عليه مجموعة من التحديات الأصعب. هذا ما أرددت أن ألفت نظر اخواني إليه، واذكرهم أنهم في أصعب وأخطر مراحل المشروع الإسلامي على الإطلاق بل إن فشل هذا التحدي يمكن أن يؤدي بهذا المشروع الوليد إلى الفشل الذريع. مجموعة من التحديات الصعبة ومجموعة من الأخطار والمواقف الصعبة التي ينبغي ان نسير في خضمها دون السقوط لا من على أيماننا ولا من جانبنا الآخر، الإستقامة على طريق الموازنة هي المطلوبة. ينبغي على أبناء التيار الإسلامي إدراك ذلك دون ضرب هويتهم الثورية وينبغي عليهم أن يعلموا أنهم ان اختاروا هذا الطريق سيخسرون الكثير من قاعدتهم الشعبية، ينبغي أن يعلموا أنهم بإمكانهم أن يفوزوا بهذه القاعدة على مصلحة بلادهم، ينبغي أن يعلموا أن كلاهما مهم، ينبغي أن يعلموا أن الإخلاص لله هو الأهم. ينبغي أن يعلموا أن للمعارضة ضريبتها وكذلك لتصدر الحكومات ضريبتها فما بالك ان كانت حكومة موروثة عن ثورة. وينبغي أن يعلم قياديوا التيارات الإسلامية في وقتنا الحالي أن ما أذهب الأنظمة البائدة هي الوعود الجوفاء وأن الشعب يمكن أن يصبر على وعد أو اثنين ولكنه لن يصمت إلى الأبد عن حقه ... أنتم تحت المراقبة من الإسلاميين قبل غيرهم والتخلي على عقليتنا الثورية يعني أننا انتهينا فحافظوا عليها يا أبناء سيد قطب.


jeudi 15 décembre 2011

الخطاب الإسلامي بعد الثورات


من الطبيعي أن تظهر تصورات بناء الدولة عند كل فئة من المفكرين العرب بعد هذه الثورات ويسمع صداها تتردد عند الرأي العام بكثرة،  ومن الطبيعي أن تظهر الأسئلة الكثيرة حول هويتنا وأهدافنا وطريقنا والوسائل التي تمكننا من تحقيق هذه الأهداف،  فهي أسئلة أساسية ولا بد من طرحها لمناقشتها وتناولها بطريقة مستفيضة فضلا عن النظر في القضايا على المستويين القريب والبعيد في الوقت ذاته، فتحديد علاقتنا _مثلا_ بالأراضي الفلسطينية المحتلة ليس مجرد كلاما في الهواء، إن ما يترتب على الإجابة على هذه القضية الهامة علاقات دولية كاملة وتحديد أهداف شعب من ألفها إلى يائها فمن ينظر إلى القضايا المستقبلية على أنها كلاما في الهواء ولا يبغي إلا الحديث على المستقبل القريب، مشكلة "الفقر" _مثلا_ التي كانت عاملا مهما بل أساسيا في قيام الثورة، ويحصر قضية بناء دولة على معالجة هذه الإشكاليات ففي الحقيقة هو يسير على نفس منهجية العرب السائدة منذ عقود، لقد كان همهم الإجابة على المشاكل المطروحة حولهم وفي زمانهم دون التوسع في طرح القضايا وتحديد اهداف بعيدة المدى حتى نقف على أرض صلبة فنعرف من نحن وماذا نريد وإلى أين نتجه، لقد أثبت البعض منا أنهم بهذا المنطق لم يتعلموا من تاريخهم ولا زالوا ينظرون إلى البرامج الآنية على أنها هي القضايا الأساسية دون غيرها في الوقت الذي يراهن عليه الصهاينة على برامج مستقبلية ترمي لقضايا عقود قادمة.

إذا نظرنا إلى ما يطرحه المفكرون الإسلاميون في هذه المرحلة فنجد الضبابية تتطغى على كتاباتهم وقد زادت في لبس هذه الكتابات مشاكل عديدة في الفكر الإسلامي تطرح نفسها بقوة أما السياسيين في الحركات الإسلامية فحدث ولا حرج،  فطرحهم منغمس إنغماس تام في الديبلوماسية والعموميات. لا شك أن العقلاء من فرقاء الإسلاميين السياسيين سينكبون بكل جدية على دراسة نتائجهم المخيبة لآمالهم وسيعدّون نقدا ذاتيا لخطاباتهم بل وتوجهاتهم ككل. ولا ينبغي أن يغفل الإسلاميون على هذه النقطة فالإنكباب على تطوير الفكر الإسلامي أمر مهم في هذه المرحلة، مرحلة ما بعد الثورات، أو دعنا نقل "توضيح" اهدافهم ومرادهم.

إن الحركات الإسلامية قامت بعد سقوط الخلافة مباشرة بهدف إعادة إحيائها من جديد وكذلك إعادة تحكيم شرع الله وإنفاذه في البلاد. إن المشروع الإسلامي الذي يتحدث عنه الإسلاميون قائم على "ان الحكم إلا لله" وهو ما يحيلنا مباشرة على الشريعة الإسلامية المشتملة على مبدأ الوحدة على أساس الإسلام أي الخلافة بغض النظر عن الاختلاف في ماهيتها وحيثياتها ولكن ما يهمني هنا هو المبدأ وهو الأمر ذاته بالنسبة للشريعة، فكل الإسلاميين يتفقون على هذين المبدأين ويختلفون في التفاصيل وهو أمر عادي بل مطلوب. وبكل تأكيد يختلف الإسلاميون في كيفية تصريف برنامجهم وإنفاذه بين من يقبل بالتدرج في إنفاذ الشريعة _ولهم اجتهاداتهم وأدلتهم في أدبياتهم_ وبين من لا يقبل بالتدرج _ولهم اجتهاداتهم وأدلتهم في أدبياتهم. ولا غرابة في هذه الإختلافات فأي مدرسة فكرية تشترك في الأصول وتختلف عند الفروع.

ولكن المحير والذي يلفت الإنتباه أن يكون هذا الأصل "ضبابي" وغير واضح لأبناء الإتجاه الإسلامي ذاته خاصة عند من لم يفرق بين النظرة إلى الغد في حدود الواقعية وبين النظر إلى "المشروع الإسلامي" على المستوى البعيد، أي التفريق بين الخطة المرحلية والخطة الإستراتيجية، وساهم في ذلك نوع من "التبرؤ" من عدة مصطلحات إسلامية مثل "خلافة" و"الشريعة" ووصل الأمر إلى أن حصر تحكيم شرع الله على "مقاصد الشريعة" بإعادة "العدل" و"الشورى" في الحكم و"المساواة" وما إلى ذلك من المصطلحات التي يتفق عليها الإسلاميون مع العلمانيين حتى "ميعت" الشريعة وغرقت في العموميات. وإذا كان العلمانيون واحزابهم يتفقون معنا على مثل هذه القيم فهل تكون بذلك احزابا إسلامية ؟ أو ان الاحزاب العلمانية لم تدعوا إلى العدل والمساواة ... ؟!

هذا من ناحية الخطابات "السياسية" والمناظرات التي تقدم للمواطن اما إذا اطلعت على كتب كل من الفريقين فيتضح لك مشروعهما والاختلاف التي بينهما ولا تبقى إلا المشاكل الفكرية التي يعاني منها المثقفين العرب أنفسهم في التوفيق بين التراث والحداثة وأعتقد ان المفكرين العلمانيين أثبتوا فشلا ذريعا في التوفيق إذ أنهم ركزوا جهدهم على محاولة الظفر بـ"الحداثة" في حين أن الإسلاميين قدموا مشروعا يشتمل على التوفيق بين الأمرين وساعدهم في ذلك منهجيتهم التي انطلقت من التراث للظفر بالحداثة على عكس الفريق الاول الذي تجاوز التراث إلى الحداثة وكانت النتيجة التي وجدها مشوهة.

التنصل من اهداف الحركة الإسلامية (بعيدة المدى) ينسف المشروع الإسلامي من أساسه أو يكاد ويساهم في وضع الحواجز في طريق متبني المشروع قبل المواطن لفهم هذا المشروع وإدراك الغاية منه واجزم أن عرض المشروع الإستراتيجي يساهم في إضفاء المصداقية والطمأنينة بين من اختار هذا المنهج ويساهم في رسم ملامح المشروع الإسلامي منذ بدايته. أما الإعتماد على توضيح البرنامج المرحلي فقط فستجعل من الإسلاميين انفسهم صورة فسيفسائية لا تستطيع ان تجيب على سؤال وحيد "ماذا تريد ؟ وإلى ما تطمح؟". والهروب من هذه الإشكالية لن يزيدها إلا تعقيدا. فمعالجة الأمر من أساسه هو الأهم وهو الذي سيساعد على جعل أفراد الحزب مجموعة أقرب إلى بعضها البعض واكثر حرصا على الوصول إلى هذا المشروع فضلا عن ان فهم الأهداف وتوضيحها ستساعد على خلق نواة حركية داخل الحزب لمواجهة الرأي العام ونشر وإقامة تمايز بين المشروع الإسلامي وغيره من المشاريع عوض أن يكون أفراد الحزب نصف منتمين ونصف مشروع ونصف إسلاميين حتى انك تخشى امام احدهم ان تقول "خلافة". ينبغي ان نصحح المفاهيم ونقدم مشروعا خال من المواقف الديبلوماسية ومن المراوغات السياسية وإنما يكون واضحا مفهوما لكل من أراد الإطلاع عليه. المواصلة على الطريقة الحالية يذكرني بطريقة العلمانيين "القفز" على التراث ولكن هنا المشكلة اعمق إذ انها قفز على الاهداف ! قفز على الفكر ! قفز على الذات ! الخوف كل الخوف على قواعد الحركات الإسلامية التي غابت عنها اهداف هذه الحركات ولم تفهم ماذا تقصد بـ"المشروع الإسلامي"، هذه الطعنة الثانية إذا واصل الساسة والمفكرين الإسلاميين على هذا المنهج بعد أن ظلت قطاعات واسعة ممن يؤمنون بالمشروع الإسلامي خارج دائرة المساهمة في العمل الحركي وتعطلت بذلك فاعليتهم في البناء ولا شك أن كل حركة تتنصل من اهدافها لن تجلب إليها فرقائها السياسيين ولن يلتف حولها أبنائها.

ما الذي يضير الساسة أن يوضحوا للناس أن مشروعهم الذي سجنوا من اجله هو إقامة الشريعة ثم يوضحوا لهم ماهية الشريعة والسبيل لإقامتها ؟ ما الذي يضيرهم إن قالوا بكل صراحة أن هدفنا هو أسلمة المجتمع ؟ وإقامة الخلافة ؟ وكل ما كتب في كتبهم وسطر بأناملهم ولم يقله لسانهم حاليا ؟
في خضم خوفهم هذا من طرح القضايا الإستراتيجية يحاول مخالفيهم استدراجهم للبوح بما يخفون وما لا يصارحون به عامة الناس فيراوغ الإسلاميون ويجيبون على الأسئلة في بعدها المرحلي فقط. هل أنتم مع مجلة الاحوال الشخصية ؟ نعم هي مكسب وطني وسنحافظ عليه ! وفي أفضل التصريحات يقال هي مكسب وطني ومطابقة للشريعة في "مجملها".  رغم أن الكل يعرف أن فيها مخالفات شرعية وكتب فيها الشيخ الزمزمي في التسعينات نقدا فضلا أن التصور الإسلامي للمجتمع لا يقف عند هذا الطرح بل يتجاوزه ليكون مؤطرا بالكتاب والسنة بعيدا عن سياسة اللبرلة، فلمَ لا يتم إعداد بحث مفصل فيها لنميز به بين الخبيث والطيب وبين التجديد الذي قاده الشيخ طاهر الحداد رحمه الله وبين التجاوزات التي تحسب عليه وتوجت في المجلة ؟ بعيدا عن مجلة الأحوال الشخصية،  ألم تسمع مثلا لتصريح الشيخ راشد الغنوشي وهو يقول أننا لن نغير نمط عيش المجتمع ؟ وكذلك تصريح الأخ رياض الشعيبي في نفس المسألة ؟ أو عند إجابة الشيخ راشد على سؤال المذيع الفرنسي حول إقامة الشريعة فأجاب لا لن نقيمها ؟ أو ان الخلافة الإسلامية وهم وهي قضية غير مطروحة ؟ وغير ذلك من التصريحات التي تصب في ذات الإطار ؟ أليس مهما ونحن نبتنى برنامجا إقتصاديا يكرس الرأسمالية وينحو منحى الليبيرالية أن نوضح للناس موقفنا منها ونفرق بين الإستراتيجي والمرحلي ؟ أليس تكريس الرأسمالية من أكبر الخطايا التي يمكن أن نرتكبها في مجتمعنا ؟ إن الحركات الإسلامية قائمة على المنهج الثوري فهي كما يصفها الشيخ راشد الغنوشي تطرح على نفسها برنامجا تغييريا شاملا يستهدف التغيير من الجذور، فلمَ لا يتم تحرير المصطلحات وتوضيحها للناس عوض التبرئ منها ؟ لمَ لا يتم التحدث عن أسلمة المجتمع على أنه تحشيد لأجهزة الدولة وإمكانياتها (من إعلام وتعليم وفنون ...) لغرس الأخلاق الإسلامية وترشيد المجتمع نحو الفضيلة ؟ ولم لا يتم التحدث عن الشريعة الإسلامية على أنها مقاصد واحكام وتطرح شاملة غير منقوصة على المجتمع عوض طرحها على انها مجرد مقاصد فقط لنتوافق في ذلك (من ناحية الخطاب) مع اليسار الإسلامي ؟ ولم لا يتم التحدث عن الخلافة على انها وحدة للدول الإسلامية إقتصادية واجتماعية وسياسية ؟ إن تحييد المصطلحات وتوجيهها وترشيدها هو المطلوب منا اليوم بدل ان نترك الفرقاء السياسيين يوجهون الشريعة الإسلامية نحو الحدود دون غيرها سواء أكانوا من الإسلاميين عن جهل منهم او من علمانيين عن سوء نية ومحاولة لتشويه الخصوم من قبلهم.  إنني أدرك تمام الإدراك أن هاته الإجابات جميعها تجيب على مستوى واحد وهو المستوى الحالي، المستوى الأول، فهي متعلقة بالسنوات القليلة القادمة التي سنعيشها ولم تتم الإجابة على المستوى الإستراتيجي. لذلك عندما تقرأ كتاب الحريات العامة والدولة الإسلامية أو غيرها من كتب الشيخ راشد وكتب المفكرين الإسلاميين والشيوخ تجدهم يتحدثون عن هذه الامور ويأصلونها ولكن أعتقد ان "خطابنا" الذي نتوجه به إلى الناس فيه العديد من النقائص التي ينبغي أن تراجع فقد فتت حصون الإسلاميين وزرعت الشكوك حولهم وهذه هي مغبة افتراق الخطاب السياسي عن التأصيل الشرعي والفكري والإكتفاء بالطرح المرحلي وعدم الغوص في أعماق المسائل لتحييد المصطلحات وإرجاعها لأصلها وطرح الموضوع بجميع حيثياته وتفصيلاته بدل إغراقه في العموميات. 

هذه إشكالية من إشكاليات "الخطاب الإسلامي" اما في دراسة ماهية المشروع الإسلامي وكيفية معالجته لكافة المشاكل التي تطرح على الفكر المعاصر فذلك ينبغي أن ينكب عليه المفكر الإسلامي بكل قوة وأن يكف عن ترديد كلمات مثل سماحة وسطية وما إلى ذلك من الصفات التي يردفها المفكر الإسلامي من حين إلى آخر وهو يصف المشروع الإسلامي ويتعدّا هذا الأمر إلى الانكباب على معالجة مشاكل أكثر جوهرية تطرح على مجتمعنا في الوقت الراهن، ما يؤسفني حقا ان المفكرين الإسلاميين يعيدون نفس المقالات بل والكتب مئات المرات ليثبتوا ان الاحزاب الإسلامية لا تتبنى العنف أو انها تؤمن بسماحة الإسلام أو غير ذلك من الأمور المعلومة عند العامي البسيط قبل المفكر. لنكف عن إجترار المسائل وإعادة صياغتها ومن اعتقد ان الفكر الإسلامي قد بلغ منتهاه فلا شك أنه لا يعرف معنى "فكر".