Affichage des articles dont le libellé est أهم المقالات. Afficher tous les articles
Affichage des articles dont le libellé est أهم المقالات. Afficher tous les articles

dimanche 9 février 2014

الشباب التونسي والجمعيات الشبابية : في معادلة المحروم زائد المهمش

فسحت الحرية التي نالها الشعب التونسي بالثورة متنفسا للشباب للإقبال على الساحة المجتمعية العامة لمحاولة التغيير والإيجابية، بعد أن كانت فترة ما قبل الثورة مقبرة لكل تحرك ولكل مبادرة ينتهي صاحبها "وراء الشمس" غير مأسوف عليه.
والتحرك الذي شهده المجتمع التونسي بعد الثورة كانت له ثمار عديدة بالنسبة للشباب على رأسها التعارف فضلا عما وراء ذلك من تعلم واستفادة وتوحيد للرؤى والأفكار الذين لا تكون نتيجتهم كلهم مجتمعين إلا إطلاق المبادرات والحملات وحتى الجمعيات.

- الشباب وتحديات الجمعيات

الجمعيات والمنظمات طريقة ممتازة لخدمة الأفكار وتنظيم التحركات في عمل جماعي منظّم، فقدها الشباب التونسي لمدة طويلة وهو حاليا يحاول إرساء أقدامه بتؤدة في هذه الساحة الجديدة نحو اكتشاف قعرها وما فيه من درر.
إلا أن العزوف لا تزال الصفة الطاغية إزاء الجمعيات، مع قلة قليلة اتسمت بالنشاط والمثابرة. ويعود سبب العزوف إلى مجموعة من الأسباب، منها الذاتية ومنها خلاف ذلك. لا شك أن من أهم الأسباب الذاتية كثرة المشاغل التي يجد الشاب التونسي نفسه في مواجهتها، من دراسة وعمل طوال أيام الأسبوع، معَ عطلةٍ أسبوعيةٍ مكتظةٍ بمشاغلِ نهايةِ الجُمُعَةِ ومستلزمات الأيام القادمة. وكذلك قلة الوعي بأهمية الجمعيات والعمل الجماعي بل وربما فقدانُ بعضٍ آخر لعقلية الإيثار، أي إيثار الغير بوقتك وجهدك ومالك لخدمتهم وتقديم الفائدة لهم.
ومن الأسباب الأخرى أيضا، عدم مبالاة من وزارة الشباب (أو وزارة الثقافة أو غيرهما من الوزارات والمسؤولين ...) بالجمعيات الشبابية والقطاع الشبابي، عدم مبالاة تامة رغم الثرثرة الكثيرة حول الشباب وأهميته في المجتمع بما يذكرنا بعام المخلوع الدولي للشباب الذي كان مناسبة جيدة لطرده من قبلهم. تصل هذه اللامبالاة إلى حدود بعيدة يتعدد خلالها الممثلون واللاعبون الرئيسيون إلا أن المسؤولين الأساسيين هم القابعين في أعلى الهرم. تتجلى لك أبسط اللامبالاة وأولها في المسائل التنظيمية الروتينية التي يُعقّدُها البعض حتى يصل بك الحال أن تنتظر الساعات الطوال من أجل ورقة تظفر بها ليرخص لك "السيد فلان" أن تنظم مجرد طاولة تعريفية بجمعيتك، حتى أنك تحس ذلك الإحساس المهين، إحساس متسول أمام باب سيد القوم أقدم على "مزيّة" إزاءك. وربما آخرها هو إشكالية التمويل، وهنا لن تحس بإحساس المتسول لأنك لن تظفر بشيء على كل حال، وفي أغلب الأحوال فإنك تدخل العمل الجمعياتي بعقلية "ماحاشتيش تعاونونا غير سيبونا نخدمو رايضين".
لكن الحيرة تعصف بك عندما ترى ملايين المليمات التي ترمى في تفاهات الأعمال الهابطة، في حين لا تنال جمعيات شبابية شيئا لتحفيزها، بل تلقى من العرقلة ما يهد الجبال ويفتت الصخر. فكيف يطلب من الشباب العمل الجمعياتي دون أرضية ملائمة لذلك ؟ وهل للجمعيات الشبابية حظ في تونس ؟ أعتقد أن الجمعيات التونسية التي كتب لها الفاعلية في الساحة هي إما الجمعيات التي حظيت بالدعم الوزاري، أو الجمعيات التي حظيت بالدعم الخارجي أو على الأقل بدعم أصحاب "الأكتاف"، أو غير ذلك من الجمعيات التي لها من التعويل الذاتي ما يسد حاجتها ويلبي متطلباتها، أما الجمعيات الشبابية التي كثيرا ما يكون أغلب منخرطيها طلبة أو تلاميذ فإن تنظمهم في جمعية إيذان لحرب على عدة مستويات، بدأ بتنظيم أوقاتهم وإلتزاماتهم ونهاية بتوفير المستحقات المطلوبة، ومستحقات كراء المقر أشدها بأسا عليهم بطبيعة الحال، فإن وفروا ذلك فبالكاد يوفرون مستحقات تحرك بسيط خلال ذلك الشهر حتى يجدوا أنفسهم يجدوا ويعملوا ليفروا فقط مستحقات المقر، وإن تركوه ضيعوا الصبغة الرسمية للجمعية.
وهذا ما يطرح التساؤل جديا إن كان المسؤولون على أدنى علم بأهمية البحث والإستقصاء في الموضوع الجمعياتي في سلبياته وطوامه وغربلة شوائب الجمعيات الفقاعية التي لا تتكاثر إلا لمجرد الحصول على رخصة أخرى فتحوز بذلك حصص الجمعيات الأخرى الناشطة (جمعيات الأعشاب الطفيلية). وترتيب الجمعيات في ميزان الحساب على حسب ما قدمت من أنشطة وما ستقدم لا على حسب الأكتاف وعقلية "شدلي معاك بلاصة".
كل هذه الإشكاليات التي ذكرنا وأخرى كثيرة لم نذكر لهي أشد أسباب عزوف الشباب عن النشاط الجمعياتي.
إن العقلية التونسية عقلية براغماتية جدا بطبعها، ومن هذا المنطلق فإن سؤال أحدهم يكون : "يا خويا آش لزني بش نزيد على مشاكلي مشاكل جمعية ؟ فك عليك يا راجل. لا يزي لا خساير وقت وجهد ولا يزي تكسير راس".
لا شك إذا أن هذا الموضوع لا يستحق مقالا واحدا، بل يستحق مقالات متعددة، وأبحاثا ودراسات لتحسين الوضعية، وكم رجوت أن تتم دراسة الموضوع ومناقشته جديا وأن أجد الإعلام التونسي يعطي لهذا الموضوع حقه. فإن في تنظيمه ربحا لمال وفير وجهد كثير ووقت ثمين نحن في أشد الحاجة إليهم، وفي الإرتقاء به كذلك إرتقاء بالمجتمع كله.

- أهمية الجمعيات

فكرت أن أكتب فقرة في أهمية الجمعيات، فوجدت هذا من قبيل تعليل أمر متفق عليه أو إرشاد إلى قاعدة مجمع عليها، فلم أجد أفضل من ذكر تعدد المجالات التي تنشط فيها الجمعيات.
فقد تكون الجمعيات يدا تضامنية تمتد إلى الفقراء والمحتاجين فتقوم بحاجتهم وتسد بعضا من احتياجاتهم فضلا على أنها تمثل طريقا مضمونة وسليمة من يد المُتَصَدّقِ إلى يد المتصدق عليه، فيتجنّب الناس شبكات التسول المنظمة برقابة الجمعيات للحالات التي تسجلها في دفاترها وتعاينها. وقد تكون الجمعيات أيضا جمعيات تنموية وإصلاحية، تدرس محاولة تحسين الجهة أو المنطقة بدراسات تقوم بها وتعدها وتتعاون فيها مع الحكومة، بل وتنفذها في أحيان أخرى إذا ما كان في مقدرة الجمعية استطاعة. وقد تكون الجمعيات جمعيات ثقافية، تطور أشكالا فنية أو تعرف بهم أو تحث الناس عليها أو غير ذلك. وقد تكون جمعيات للترجمة، فترصد أفضل ما كتب حديثا وتترجمه للعربية. وقد تكون جمعيات إسلامية أو رياضية، أو جمعيات بيئية أو غير ذلك من أصناف الجمعيات.
فضلا على كل ذلك، فإنها تصريف للأوقات في ما ينفع، ومجال لتطوير الذات، وإرشاد للطاقات في ما يُنَمِّي لا في هَدر. فهل يستحق هذا دلالة على أهمية ؟

- تجربة رابطة الشباب الرسالي أنموذجا

كانت لي تجربة في العمل الجمعياتي في عدة جمعيات، أهمها كانت في إطار رابطة الشباب الرسالي. وهي جمعية شبابية تهتم بالمجالات التربوية، الدعوية، الثقافية والاجتماعية. ورغم الصعوبات التي واجهناها في إطار هذه الجمعية إلا أن ما قدم من قبل عناصر الجمعية كان محل إعجاب عدد كبير من المتابعين وإعجاب جمعيات أخرى وإشادة بالجهد المبذول والنتائج المحصّلة. رغم أن ما تم تجسيده من أنشطة لم يكن إلا نزرا يسيرا جدا من الأفكار التي يطمح إليها الأعضاء. فالحكم على التجربة إذا ما قورن بالإمكانيات القليلة استطعنا أن نمنحه علامة حسن، وهي ذات العلامة التي تمنح إذا ما قورنت التجربة بتجارب جمعيات أخرى. لكن إذا ما وضعنا الطموحات التي بدأنا بها في كفة، وما نفذ على أرض الواقع في كفة أخرى، فإن العلامة لا تفوق حسب تقديري : رديء.
الجمعية هي جمعية إسلامية، حاولت أن تخصص مجالا حرا للشباب للنشاط، وكذلك للشابات لممارسة أنشطتهن بمكتب خاص بهن. كانت هذه الرؤية نتيجة لمسألتين اثنتين، أولاهما أن جمعية تربوية دعوية يكون الفصل فيها بين الجنسين أفضل من الجمع تناسقا مع المرجعية الإسلامية للجمعية، وثانيهما هو إتاحة المجال للشباب أو الشابات لعمل مستقل يتوافق مع خصوصياتهم لممارسة أنشطتهم بأكثر أريحية، خاصة أن من بين الأنشطة الأنشطة المسجدية والمخيمات واللقاءات والسهرات الإيمانية وغير ذلك من الأنشطة التي يفضل في بعضها الفصل وفي البعض الآخر يتوجب ذلك فيها خاصة أن الشريحة الناشطة مقتصرة على الشباب. مع الجمع والتنسيق في الأنشطة  العامة مثل الندوات العامة.
إلا أنني وصلت لقناعة مفادها أن تكريس الفصل في إدارة الأنشطة أمر يعيق العمل ولا يقدم أي نفع يذكر، فضلا أن الفصل ينبغي ألا يكون القاعدة التي يسار عليها بل ينبغي أن تحدد الأنشطة التي يتوجب فيها وتقام على ذلك الأساس، مع جمع في بقية الأنشطة. وسبب ذلك أن قلة الزاد البشري للشباب العامل والفاعل في الجمعيات يوجب الجمع حتى في الأنشطة التي يفضل فيها الفصل. فهي إذا إشكالية تنظيمية داخلية. لكنني أحسب أن إعاقتها للعمل كانت بنسبة كبيرة جدا. وطبعا فإن هذا الأمر لا يحسم على أساس سؤال أن الفصل سيء أو جيد ويقطع بذلك في مختلف الحالات، ولكن يحسم فيه بناء على الاعتبارات المتاحة بين أيدينا. فنقول إذا أن خيار الفصل ضمن الاعتبارات التي عايشناها في تلك الفترة كان له نسبة كبيرة في إعاقة العمل ولم يكن في خدمة المشروع الذي طمحنا إليه، فقد كان قرارا خاطئا. (رغم أني كنت من مناصريه)

من الإشكاليات الأخرى كذلك، زيادة على قلة عدد الأعضاء وقصر التجربة وضعف الإمكانيات وأسباب غير ذاتية تحدثنا عنها أعلاه، عدم التخصصية في تطبيق البرامج. ذلك أن أي جمعية تهدف إلى العمل في مجالات متعددة، وتقوم بأنشطة مترامية الأطراف، من ندوات عامة إلى سهرات ولقاءات إيمانية إلى مخيمات ودورات تكوينية ومحاضرات مسجدية ومجال مخصص للكتاب مناقشة وقراءة وإصدارا، وغير ذلك من الأنشطة الأخرى المتفرقة. إن مثل هذه الجمعيات إن لم يكن عملها مقسما على مكاتب متعددة كل يشغر مجالا ويقوم على لبنة من هذا البناء فإنها لا محالة سائرة إلى استنزاف عدد قليل من الأعضاء إلى حد الوصول إلى الإنحدار في العطاء وأخيرا الملل والخمول. فكان من الأحرى، عوض دخول الساحة بمحاولة تطبيق جميع الأفكار بعدد قليل من الأعضاء، أن يهتم بمجال معين، يعمل في تفعيله والنشاط فيه دوريا، ثم بعد ذلك محاولة بعث مكتب آخر في مجال أنشطة أخرى، وهكذا بتوسع. وكل هذا لا يتم إلا إذا أخذنا بالإعتبار الأعضاء الفاعلة حقا، فإن الأعضاء تنقسم إلى مجموعات : فمنهم من ينتظر الإستفادة من الجمعية، وهذا لا يقوم به عمل، فهو في مقام المتفرج المشارك أحيانا. ومنهم كثير الكلام قليل الفعل، وهذا في حكم سابقه. ومنهم كذلك من يقدم على المواقع ليشغرها بالفراغ، وهذا هو الغائب بالحضور. ومنهم من إذا كلف بعمل أبدع فيه، ولا يعوّل إلا على هذا الأخير. وهذا نسبته في الشباب التونسي مقارنة بكل ما سبق، قليل في قليل في قليل في السواد الكثير. وتعلم أيها القارئ أن هذا الكلام حق، لا مجرد قذف في أهلية الشباب وعطاءهم.

كذلك، فإن التقوقع الذي وقعت فيه الجمعية كان سببا آخر سلبيا. ذلك أن التصور الذي انطلقنا منه هو تكوين مجموعة من أبناء المشروع الفكري للجمعية حتى تمتلئ بهم ولا تسير نحو احتواءها وتحويل وجهتها. ورغم وجاهة الفكرة لجمع عناصر متجانسة فكريا للعمل في رحاب الجمعية، خاصة أن الانسجام الفكري كان هاما فيها بسبب تعدد محاور عمل الجمعية، إلا أن المسير في هذا التوجه مدة طويلة كان سببا سلبيا لفسح المجال للشباب للتعرف على الجمعية بطرق منفتحة أكثر. فكأن هاجس الاختراق أو الخشية من أن يصطبغ جسم الجمعية الداخلي بالحوارات العقيمة والمهاترات التافهة أثر على التواصل مع الآخر، فهي معادلة صعبة وجب النظر فيها إلى حدين متابعدين أولهما الحفاظ على عناصر متزنة تهيؤ مجالا روحانيا لنشاط مسجدي أو لقاء إيماني بعيدا عن المهاترات والحفاظ على هوية الجمعية وتجانسها وثانيهما التواصل مع الآخر وتوسيع النواة. فأعتقد ان الكفة التي خرجنا بها كانت مائلة أكثر مما ينبغي إلى طرف التقوقع على الذات، فإن كان الأمر محدودا لفترة من الزمن فإنه مكروه إذا طال.

ورغم كثرة المآخذ والانتقادات التي يمكن أن تكال من مختلف الأعضاء، فتختلف وتتعدد وتتكاثر كلما زدنا في طول الحوار، إلا أنني أعتبر أن أهم إشكالية على الإطلاق هي تعدد الجمعيات الشبابية التي تتشارك في الأهداف ذاتها تقريبا، وقلة التنسيق بينهم.

- ترشيد التجربة الجمعياتية

فتجد في أحيان كثيرة جمعيات يمكن أن تندمج في جمعية واحدة فتريح وتستريح، تريح الناس من كثرتها وتستريح من العمل المنفصل الذي يحتاج أكثر مجهود وأكثر التزامات. وهذا دليل على غياب الحوار بين هذه الجمعيات وتوسع عقلية الفردانية على حساب عقلية جمع الشتات. إن الجمعيات العرجاء لن تستطيع التغيير، وليس الوقت الحالي وقت جمعيات همها نشاط أو اثنين خلال عام أو نصف عام. فإن لم يكن أصحاب هذه الجمعيات يفكرون بعقلية النشاط الدوري المنظم والمستمر، فينبغي أن يعلموا أن عملهم فاشل لا يرتقي للمأمول. ولا يمكن أن يصلوا إلى هذه المرتبة إلا إذا كان همهم قبل اسم الجمعية وصفتها وأصحابها ثمرة العمل والهدف.

إنك تجد كثيرا من الجمعيات التي تضع على جدول أعمالها تنظيم ندوات دورية، إلا أنها لا تضع على جدول أعمالها الاتصال بالجمعيات الأخرى للتنسيق على الأقل في هذا الموضوع. فإن تنظيم ندوات (محكمة وكبيرة ولها صدى) تحتاج لعمل دؤوب وحرص كبير وتمويل ذا شأن، وإذا ما أريد أن يكون الأمر دوريا فإن المسألة تصبح محتاجة لمكتب منفرد يحرص على تنفيذها وأكثر جهد. ولو تواصلت الجمعيات المهتمة بهذا الشأن في هذا الموضوع بين بعضها البعض وتمخض عن تواصلها تنسيقية في مسائل معينة تنظمها لكان الوضع أفضل.

مثال آخر لهذا الموضوع، وهو حول مسألة الكتاب، أو إن شئت المكتبة. فإن الفكرة تروق لجمعيات كثيرة، وكل واحدة منها تتسابق لجمع الكتب وإقامة مكتبة في مقرها عسى أن تجد إقبالا من الشباب لتشهد حركية في مقرها. والكتب ذات سعر مرتفع، ومال الجمعيات قليل، والطرق لتحصيلها وعرة، والجمعيات التي تسلك هذا المسلك كثيرة ومتعددة. فتفرقت الجهود وتشعبت ولم يهتدي البنان ليشير إلى مكتبة واحدة من هاته المكاتب الكثيرة ليصنفها كمرجع يعود إليه الباحث. ولم نجد دعوة واحدة بمحاولة توحيد الجهود بعيدا عن سقف أسماء الجمعيات الفلانية أو العلانية، فتكون تحت حملة لجمعيات متعددة مثلا، وتحيد عن مقرات الجمعيات لتكون في مقر مكتبة عمومية. فتحل إشكالية المقر وضبط الزائر بوقت، وتكون فرصة لتوسيع إحدى المكتبات العمومية، ويضاف إلى زادها زاد من الكتب الجديدة الحديثة، وفرصة أفضل لتوحيد الجهود في عمل مجد، عوض ان ينال الغبار من الكتب فوق رفوف مكتبات لا تطالها الأيدي في مقرات مغلقة غالب الوقت.

قد سعدت جدا سابقا بخبر مفاده أن إحدى الجمعيات تسعى لكراء مقر كبير يكون مجمعا لجمعيات كثيرة ومقرا لها، فتكون خلية نحل، لكن الفكرة سرعان ما آلت للفشل وعلى ما اذكر فأسباب ذلك تنظيمية وداخلية في جسم تلكم الجمعية. إلا أن الفكرة لا تزال ترن في أذني. مقر واحد لجمعيات عديدة تشترك فيه يكون شاسعا وجامعا ولمَ لا مقرا لمكتبة مشتركة فضلا عما سيوفره من أرضية لعمل مشترك. إلا أن مثل هذه الأفكار تحتاج لتنسيقيات ثابتة بين الجمعيات، تنسيقيات بين جمعيات جدية لا جمعيات فلكلورية تلوك القديم، جمعيات متحررة من الإشكاليات الداخلية التي تشيب من هولها رؤوس الولدان والعناصر المعرقلة الذين كثيرا ما سمعنا عن شطحاتهم. بل وربما كل هذه الجمعيات في حاجة إلى جمعية "تنموية" لفائدة الجمعيات الصغيرة والمتوسطة، تجمع رجال أعمال ومؤسسات لتشجيع هؤلاء والدفع ببرامجهم نحو التحقق فتكون ملجأ لهم إذا ما أرادوا التمويل يكتسبوه ببرامجهم وعملهم لا بولاءهم لفلان أو علان (بما أننا ابتلينا بوزارات دعمها معلوم لمن سيصرف مسبقا).

أعتقد ألا حل للجمعيات التونسية، إذا أرادت أن تعول على نفسها فتهتدي إلى التغيير، إلا بتفعيل العمل المشترك، والبرامج المشتركة، وليت كل نشاط يكون دوريا (نصف أسبوعي أو شهري) بمكتب موسع ومنفصل تشارك فيه جمعيات متعددة، فيجد المتابع أعمالا دورية يهتدى إليها وتلقى حظها الإعلامي أكثر لدى الشباب ويكون لها صدى أكبر، وإلا فإن عدم الإرتقاء بالعمل الجمعياتي منذر بانحدار إلى السفح.


dimanche 3 mars 2013

الإصلاح وإرساؤه في المجتمع


الإصلاح قضية عميقة بدأ الجدل يحتدم حولها منذ استفاقة المسلمين على مدافع الغرب تدك حصونهم إثر سبات قد طال، وإرساء هذه العقلية في المجتمع قضية ثانية لا تقل أهمية عن سابقتها ذلك أن الإصلاح وفكرته التي تحصنه إذا لم يكن لها امتداد في المجتمع فإن الفكرة تكون منبتة لا فائدة ترتجى منها.

من تاريخ الإصلاح في تونس

شهدت تونس في القرن التاسع عشر محاولات عديدة للإصلاح إثر تردي الوضع المعيش وتردي الأحوال السياسية والإقتصادية والاجتماعية في البلاد، في حين كانت الضفة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط تسارع الخطى في الاكتشاف والتقدم العلمي وتطور الفكر والمعارف عندهم. فكانت محاولات الإصلاح في كل من مصر وتونس متقدمة إذا ما قارناها باليابان، في تلك الفترة، والتي استلهمت من التجربة الإصلاحية التي قادها كل من رفاعة رافع الطهطاوي في مصر وخير الدين التونسي في تونس. وكانت رحلتي هاذين الأخيرين للغرب حينها وكتبهم عن ذلك كفيلة بكشف الهوة الساحقة التي تفصلنا عنهما فتبلور على امتداد تلك الفترة من الزمن في القرن التاسع عشر وكذلك القرن الذي يليه سؤال محوري "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم ؟" (عنوان كتاب لأمير البيان شكيب أرسلان) وحاول المفكرون الإجابة على هذا السؤال فتعددت الأفكار وتعددت المشارب بين من يرى أن التخلي عن تراثنا (الدين، الثقافة، التقاليد ...) هو الكفيل بالتقدم والتطور واتباع الغرب شرط كاف لتحقيق التقدم وبين من يعتقد أن الرجوع لهذا التراث هو الحل الذي يكفل لنا الإصلاح ويوثقه والأخذ بأسباب التطور لا يتعارض مع تراثنا، وتبلور حينها الاتجاهان، اتجاه التغريب من جانب، واتجاه الهوية في الجانب المقابل.

ولعل ما يقوله الحبيب ثامر رحمه الله تعالى في إحدى خطبه يجلي ما كان يشعر به المثقفون من ضرورة الإصلاح في مسار الأمة، إذ يقول أنهم (( رأوا جهلا مظلما سمه القاتل في سائر طبقات الشعب. رأوا فقرا مدقعا مخيما على كامل البلاد. رأوا عوائد وأخلاقا إسلامية ذاهبة إلى الاضمحلال والتلاشي. رأوا دينا حنيفا تهتك حرمته ولا يراعى جانبه. رأوا لغة آبائهم وأجدادهم دخلت في طيات النسيان.)) لذلك ((بادروا إلى جمع جهودهم وتنظيم صفوفهم للدفاع والمقاومة وسيكون النصر حليفهم فتبلغ آمالهم طال الزمن أو قصر)). (كتاب الحبيب ثامر هذه تونس)
فكانت من ثمرات مجهوداتهم إثر تحديد ما يشغل بالهم من بلاء أحاط بالأمة أن قاموا بانشاء المدرسة الصادقية وتطورت المدرسة الزيتونية وأصدرت الصحف العديدة باللغتين العربية والفرنسية واكتسب طلاب المدرسة الزيتونية وعيا نقابيا ووعيا فكريا أنتج من بينهم ثلة من المثقفين وثلة من القضاة والمصلحين الذين ساهموا في إنشاء وعي مجتمعي في تلك الفترة كانت ثمرته امتداد شعبي للحزب الدستوري الحر (القديم والجديد) وحراك نقابي وحركة فكرية كللت سنة 1956 بالاستقلال. فيمكننا أن نقسم الاستقلال في تونس على ثلاثة مراحل بدأت بالعمل المسلح في بدايات الاستقلال الذي سرعان ما تهاوى أمام المستعمر الفرنسي ويليه حركة الاستقلال اللين من خلال العمل الثقافي والوعي بقضايا البلاد والعمل السياسي والتعريف بالقضية التونسية في الخارج وتظافر جميع جهود هذه الأعمال لتصب في آخر المطاف في المرحلة الثالثة التي كللت بثورة على المستعمر الفرنسي بجميع الوسائل والأساليب اللينة منها وكذا المصادمة المسلحة المباشرة أو المصادمة من خلال المظاهرات والانتفاضات لتكسب تونس استقلالا مستحقا عملت عليه أجيال لتحقيقه.

يعلمنا الإمام العلامة ابن خلدون رحمه الله أن التاريخ لا يزيد في ظاهره عن الإخبار إنما في باطنه نظر وتحقيق. والمتمعن في ما سقته من تاريخ البلاد يلاحظ من خلال تقسيم الفترات أن الإصلاح كان على ثلاثة مستويات : إصلاح الفكر وتقويم الرأي، الانتشار والامتداد الشعبي، التفعيل والتطبيق.

الإصلاح والفكر

أساس الإصلاح الأهم هو الفكر، فالفكر ملازم لتحديد المسار ووضوح الخيار ورسم هدف يرجى بلوغه وتحقيقه.
إن إصلاح المجتمع يقتضي فكرا نابعا من ثقافة المجتمع وتراثه أولا وهو ما فرضه تيار الهوية على الساحة كواقع لا يمكن التشكيك فيه منذ سنوات عديدة فلم نعد نسمع هرطقات كانت تتداول بين التيار التغريبي من نقد مباشر للإسلام واعتداء صارخ على الهوية والمرجعية الوجدانية التي تعد صرحا بالنسبة للشعب لا يمكن التشكيك فيها أو تذليلها لتجاوزها (انظر كتاب من تجربة الحركة الإسلامية في تونس، كذلك كتاب شاهد على تجربة الحركة الإسلامية في مصر ففي كليهما توثيق وانتقاد لهذه الاعتداءات التي كانت ظاهرة حينها عند ضمور الامتداد الإسلامي سواء في تونس أو في مصر أو في سائر الأقطار العربية الأخرى كذلك).

ومن خلال كلمة الحبيب ثامر سابقة الذكر نتبين منها أهمية الإرتكاز في الإصلاح على الدين واللغة، فإن فاقد لغته يظل أعرجا في طريق الإصلاح قد انسلخ من جلده ولم يسعفه جلد آخر ليتدارك أمره، أما بالنسبة للإسلام فهذا الدين يحتوي من الخصائص ما يساعد على الإرتقاء الحضاري لو تم فهم هاته الخصائص وحسن استغلالها.

يعدد سيد قطب خصائص الإسلام في كتابه خصائص التصور الإسلامي فيجعلها سبعة خصائص. فالإسلام دين رباني من المولى عز وجل يمتلؤ فيه قلب المرئ بالإيمان بالله تعالى الذي يجعله محاسبا لنفسه قبل أن يحاسب فلا مكان فيه للمادية الدافعة لتكريس هدم المبادئ على حساب الشهوات، إنما توزن الأفعال في ميزان المبادئ التي قررها الإسلام. وهو دين ثابت، فلا مجال فيه لتحريف البشر ولا إلى زيادة أو نقصان في مبادئه وهكذا تكون المبادئ ثابتة لا تتخلخل بكذب المبطلين ولا بغلو الغالين ولا بتدليس المفترين، وشرعته ينهل منها العالم الدارس للعلوم والمعارف ويحيط بها الرجل البسيط والمتمعن المتدبر في كتاب الله وسنة رسوله وهذا من معاني حديث الرسول صلى الله عليه وسلم "تركتكم على المحجة البيضاء" وهو خطاب إلى عموم الأمة لا إلى خواصها. ومن خصائصه أيضا، باختصار، الشمول، فهو دين شامل لم يكن دين عابد في مسجد فقط ولا عامل في معمل فقط ولا لطالب في جامعة فقط ولا إلى حرفي في دكانه فقط ولا إلى مجاهد في ميدان جهاده فقط ولكنه دين هؤلاء جميعا يشملهم ويشمل أعمالهم، فإننا نتعبد الله في المسجد كما نتعبده في ميادين الجهاد الاخرى. كما أنه دين متوازن وازن بين الحياة الدنيا والآخرة، وبين اللين والشدة، وبين العبادة والراحة. وهو دين الإيجابية الذي يأبى السلبية والانحلال في الواقع والرضى به. وهو دين واقعي لا ينطلق من معطيات وهمية ولا يبغي الوصول لهدف هلامي إنما ينطلق من المعطيات المتوفرة للوصول إلى أفضل المستطاع المأمول. وهو بعد وقبل كل هذا دين التوحيد، الذي وحد خالق الكون، فوحد بذلك الهدف والغاية إليه وجعل النية واحدة خالصة له فلا تحيد الأعمال عن غاية واحدة ولا يرجى من دون المولى إله، ولا ينتظر من غيره جزاء ولا شكورا، ولا يراد دون المولى كائن من كان.
فحري بهذا الدين أن يكون دافعا ومحركا لشعب مسلم يريد بلوغ التحضر، وكما قلت لو يفهم الإسلام بعيدا عن مغالاة الغالين، وبعيدا عما يدعيه المحرفين.

الفكر الإصلاحي والمجتمع

إن ما سقته ليس للقراءة ومن ثم مرور الكرام، بل إن الواجب من تعلم هاته الأفكار والمبادئ أن تبنى عليها الأعمال، وقبل هذا أن تنشر وتذاع بين الناس. وكما يقول مالك بن نبي أن ما ينقص المسلمين ليس الأفكار، بل الأفكار متوفرة موجودة إنما تنقصهم ثقافة الحركة لتفعيل هاته الأفكار.
إني أكتب هذه الكلمة وأنا أستحضر من ناحية ما تحدثنا عنه في الفقرات السابقة عن تاريخ تونس وجهاد قارع عنان السماء ليظفر المجاهدون بثمرة أعمالهم بتحرير البلاد فكريا واقتصاديا وسياسيا، إني أكتب وأضع في كفتي اليمنى هذا التاريخ ومعه تلك المحاولات الإصلاحية التي سقاها المفكرون بعصارة أفهامهم واجتهاداتهم، ثم أضع في كفتي اليسرى من الناحية الأخرى واقعنا المرير ونحن نترنح في جامعاتنا على رقصات الهارلم شايك ! في تلك الجامعات التي كانت في السابق ساحة للنضال ضد المستعمر ورفض سياساته وساحة للاضرابات منذ بدايات القرن الماضي للحصول على الحقوق وتحقيق المطالب، وكانت ساحة للحوارات الفكرية في السبعينات والثمانينات تعج بالحركة وبصناعة جيل واع عارف، وكانت خلال الثورة ساحة للنضال ضد ابن علي وانطلاق المسيرات ضده لتحرير البلاد من قبضته الديكتاتورية. ها قد تحولت هذه الساحات اليوم إلى ساحات للرقص، عوض ان تكون تلك الجامعات مصدرا لإنطلاق مبادرات التغيير والإصلاح وتكون مصدر إلهام حقيقي في الإصلاح وردم الهوة بيننا وبين الغرب. إن الجامعات والمعاهد مرآة المستقبل طالما أنها الساحات التي تروي نخبة المستقبل بماء معرفتها لتخرج لنا جيلا يرتقي بواقعنا، والظاهر الجلي لنا أن مستقبلنا لن يخرج عن الرقص على جراح الأمة ومصائبها بترنح نخبة المستقبل في ساحات العلم والمعرفة.

إن المطلوب تحديد الهدف والغاية من خلال الإحاطة بمرجعيتنا الفكرية، ثم العمل على نشر هذه المرجعية بما تحتويه من مبادئ وغايات سامية وأفكار قادرة على تغيير حال الأمة حتى تكون واقعا يعيش به الناس ولا تكون ثقافة نخبة، بل ثقافة شعب، ثقافة مجتمع، ثقافة متجذرة في أمة. وعند تحديد الغايات والأهداف نعرف لمَ نعمل وأين نريد الوصول ونجتنب الأعمال المعطلة لتقدم أمتنا فنتقدم نحو الغاية دون انحراف على المسار، وإذا عرفنا ذلك وعلمنا هدفنا كان العمل قرينا للعمل موازيا له، فغاية العلم العمل، والعمل لا ينجح إلا إذا وجد قاعدة شعبية تبنت الفكرة وتبنت العمل لها. وهكذا لا يكون الإصلاح عمل أفراد وطموح نخبة، بل يكون الإصلاح والتغيير هدف أمة بكاملها، وتكون الأمة محرك الإصلاح.



lundi 30 avril 2012

أبناء المشروع الإسلامي في مهب الريح - الجزء الثاني


ذكرت في المقال السابق منهجية التربية الإسلامية وبناء الفرد المسلم،والذي يمثل دعامة الأسرة والمجتمع وماترتب بسبب غياب هذه المنهجية من إخلالات لا نبالغ إن قلنا أنها خطيرة وينبغي النظر إليها بجدية لمعالجتها، وهي في الحقيقة متوقعة لكل متابع واع بحال بلداننا فهو أمر عادي ناجم عن سياسة عقود ماضية من خلال تجفيف المنابع وفي أحسن الاحوال تلويثها والانخراط في السباق الإنتخابي إثر الثورة. وقد ذكرت أن الخلل في هذه المنهجية ينتج عنه خلل متسلسل في بقية الحلقات المرتبطة به، فكان من ذلك ضبابية في فهم وتصور المشروع الإسلامي لدى العديد من إخواننا والإهتمام بقضايا هامشية على حساب قضايا ذات أهمية قصوى وتشابك الأفكار التي نلتمسها جلية في شتى الحوارات مما نتج عنه عدم فاعلية لا في الحوارات المباشرة ولا في السجال في المواقع الإجتماعية فمثل ذلك صورة سوداوية لدى عامة الشعب حتى تخيل البعض أن الإيديولوجية مصطنعة لإلهاء الشعب والسجال السياسي لا يهدف لمشروع وإنما يهدف لوراثة الكرسي، فضلا عن الإهتمام بالجانب السياسي على حساب الفكري والتربوي والذي زاد في تعميق الأزمة ولعلي أزيد توضيح بعض الأفكار في هذا المقال وأتناول الموضوع بأكثر دقة مع ذكر جوانب أخرى وأمثلة واقعية.

أبناء المشروع الإسلامي ينقسمون إلى عدة تيارات تختلف في طرحها وتتباين في سبل التغيير التي تتبناها وكل منهم يسعى حسب اجتهاد العلماء والفقهاء الذين يثق بهم لتنزيل المرجعية الإسلامية على الواقع. وكل متتبع يعلم علم اليقين أن الإختلاف في التاريخ الإسلامي كان خلال فترات عديدة معينا لا ينضب لتجديد الفكر والتلاقح الناجم عنه التطور الذي يضمن مواكبة الزمن فكل جامد يندثر وكل ثابت يضمحل ولا يحدث التطور إلا بتعدد المدارس وتعدد الرؤى وتنوعها، ولذلك ورثنا في المكتبة الإسلامية عددا مهما من مجلدات تفسير القرآن مع أن القرآن واحد، فمثلت هذه المدارس ضامنا أساسيا في إثراء الفكر الإسلامي وتطوير الحضارة الإسلامية ولكن كان ذلك متعلقا بعلة إذا غابت غاب التطور ورزخ الحال حينها لا إلى الجمود فقط بل إلى التقهقر والتراجع. وفعلا كان هذا واقعا ملموسا عاشه المسلمون لمّا غابت هذه العلة، ألا وهي فقه الخلاف. إن المتتبع لمناظرات العلماء داخل المدرسة الإسلامية ينهل من الأخلاق قبل العلم وكما تعلمنا منهم "نحن بحاجة إلى قليل من الأخلاق أحوج منا إلى كثير من العلم" ندرك تماما أن الإختلاف حينها لا بد وأن يكون رحمة، كما قلت ليحصل التطور، وفي حال غياب هذا الفقه، فقه الخلاف، والذي نعني به حسن إدارة الخلاف في ما بيننا وحسن التعامل مع المخالف والمجادلة بالتي هي أحسن، في حال غيابه يحصل المحظور ويكون الإختلاف نقمة لا نعمة فنسترجع بذلك ذكريات حرق الكتب والمراجع والتنكيل بالمسلمين فضلا عن المشاهد الدموية في تاريخنا من إبادات لمجرد اختلاف بيننا وتقسيم في كياننا إلى معسكرات عدة بسبب بعض هذه الاختلافات رغم اجماع الكل على أن الفرقة بين المسلمين محرمة ولكن تغيب مواطن الإجماع إذا ما غاب فقه الخلاف فترتفع أسهم حمية الجاهلية لدى بعضنا لتجعل من أواصر الاخوة التي وثقها الإسلام هباء منثورا، وتكون عقيدة الولاء والبراء بين المسلمين أنفسهم وتستحل في ما بينهم البين ولكن يهذب تحت مسمى آخر : مخالفي مبتدع ويجوز هجره طالما أصر على بدعته. ويقذف كل واحد منهم الآخر بأنه يبدي ما لا يبطن ويجعله ممن قال الله فيهم "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" وكأن أصحابنا لم يدركوا بعد أن من سنن الله في هذه الحياة الاختلاف ويعتقدون أن ما يملكونه هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فيألّهون أنفسهم لنجد بين أيدينا حينها "ثيوقراطيين" وخزنة لجهنم لا دعاة. وقد روي لنا "إلتمس لأخيك سبعين عذرا" وإن لم تجد فقل عسى أن له عذرا لم أعرفه، ولكن ما يحصل الآن هو عكس ذلك تماما، أسئ الظن في أخيك مطلقا حتى تعتقد أنه يبدي ما لا يخفي، ولا شك أن ذلك مرده الغرور والتعصب للرأي وقلة العلم فكلما زاد علم الفرد منا قل إنكاره. أليس هذا من ثمرات ما تطرقت إليه في المقال السابق ؟ غياب المنهج عنا ؟ إذا نحن نحصد الثمرة وهي بلا شك ثمرة من زقوم.

من حصيلة هذا الأمر أن يقع شرخ بين الإسلاميين حتى أنك تسمع عن من يهجر أخاه الذي قضى معه صباه لاختلاف نشب بينهما. وقليلا ما نسمع عن توازن في الحوار وتناغم بين المختلفين بيننا للأسف، وإذا أضفت إلى ذلك تردّي الأخلاق وتدهورها زاد الطين بلة وتدهور الوضع من سيء إلى أسوء.

ووازى كل هذا التعصب للرأي والتشبث به وليته كان تشبث بعد تمحيص بل هو التعصب الأعمى دون بحث ولا تدقيق، اللهم إلا نظرة سريعة على صفحات الفايسبوك والنهل من غزارة العلم الذي فيها، فحدث التحزب المذموم. ولا يعني التحزب ما يفهمه البعض "الإنخراط في حزب" فأن تكون منخرطا تحت لواء حزب لا يعني هذا فقدانك لشخصيتك ودفاعك الأعمى عن الحزب بل إن ذلك يعني أن الحزب الذي انخرطت فيه هو الأقرب إليك فكريا. ولا شك أن العمل الجماعي هو مجموعة تصورات ورؤى المجموعة كلها المتفق عليها دون أن يفقد كل فرد من المجموعة ذاته وفكره الخاص وتصوراته التي يمكن أن يخالف فيها بقية اخوانه، وهذا من معاني الشورى، والعمل الحزبي مندرج ضمن العمل الجماعي ويخضع للشورى والتوافق. فينبغي أن يُنتبه إلى أن كل صاحب فكر هو بالضرورة متحزب له وكل متبع لقائد أو مقلد لإمام هو متحزب له وهكذا ... والمعرة في ذلك أن يكون التتبعُ تتبع أعمى والتقليد دون تبصر والدفاعُ دفاعٌ عاطفي خاوٍ من كل منطق ومنهجية ولم يكن هذا أبدا منهجنا، بل تعلمنا من كتب العقيدة الولاء لله والبراء من الشيطان، الولاء للحق والبراء من الباطل، وما نتعلمه من كتب المحدثين في أول الاحاديث هو حديث النية والإخلاص للمولى عز وجل، وما نتعلمه من كتب فقهائنا ومفكرينا هو الدفاع عن الحقيقة لتسوية الأوضاع، ولا شك أن يكون نتاج ذلك حزب هدفه الأول والأخير تصحيح ما حوله من أخطاء ولا يستوي البتة أن يغيب هذا الهدف على أعضائه لإصلاح الحزب ذاته ان حاد عن سواء السبيل دون مواربة ولا خشية من الحقيقة فإن لم نفلح في إصلاح أخطائنا فمن باب أولى أننا أفشل في إصلاح ما حولنا. وللأسف يزعم البعض أنه يمكنه ان يكون ثوريا داخل مؤسسات الحزب (أو الجماعة، اخوانك في المنهج ...) مبررا خانعا خارجها (أمام مخالفيك). ومن نتائج السياسة التبريرية أن قتلت النقد الذاتي وتطوير الذات بل تعدى الأمر ذلك لتكون سياسة النقد الغائبة سدا ضد من يبغي التعرف عن المنهج ذاته وصورة من صور التحزب المذموم الذي يقتل الإسلاميين ويصهر شخصياتهم ويحجبها فيكون تأثيرها تأثيرا سلبيا وكما قيل من ثمارهم تعرفونهم ويضر بذلك الحزب أو الجماعة ولو كان داخلهما حراك قوي وتناقش وآراء متباينة. ولا ينبغي أن يُفهم هذا على أنه خرق لمعنى "الإنضباط الحركي" فإن الإنضباط الحركي لا يعني أن تنافق نفسك وتدافع عن قناعات ليست قناعاتك ولا يعني أبدا أن تردف الحجج وأشباهها أمام مخالفيك ثم تردف حجج مخالفيك أمام قيادات جماعتك وكبرائها، ومتى كان الإنضباط الحركي يعني إنفصام في الشخصية ؟ لا حاجة للجماعة إليك إن كنت دون رأي تميل مع كل ريح بل مع كل نسيم.

أما في الجانب المقابل فتجد من يشكلون المعارضة من أجل المعارضة، المعارضة لكل شيء، ينطلقون من تصورات طوباوية لإصلاح وضع جاهلي ويعتقدون أن الإصلاح إنما هو إصلاح ساعة أو أقل وأغلبهم هؤلاء لم يحسنوا إلا الهدم ولم يفلحوا في البناء لذلك لم يتقنوا إلا الطعن وعدم الرضا احترفوا النقد حتى إذا ما سألتهم عن البديل و"ما العمل ؟" وهو السؤال البديهي لإصلاح الأوضاع وتغييرها لم ينطق ببنت شفة، ولم يكن المشروع الإسلامي مشروع شعارات بل هو مشروع برامج وإحسان وإتقان في التغيير ومعرفة فقه التنزيل وفقه الواقع.

ستظل القواعد الشعبية للإسلاميين لغزا شائك إلى حين ترتيب أولياتها وتثقيفها فكريا حتى تبتعد عن التحركات المرتكزة على العاطفة وتزن المواقف بعواقبها، دون أن تغفل عن فقه الأولويات والموازنات. من الغريب أن تجد أحدنا في حياته الخاصة يتقن التصرف بحكمة ويعرف البقاع السوداء التي ينبغي تجنبها من البيضاء التي يطأها ويقف عليها ولكن ما إن تتشابك هذه المواقف مع الجانب الديني والقدسي في نفسه حتى تختل الموازين وتعلو القضايا الهامشية على حساب القضايا المرحلية الضرورية، أليس من الغريب أن تنتفض هذه القواعد من أجل كاريكاتور في حين أنها لا تنتفض من أجل موت إنسان جائع ؟ أليس من الغريب أن تحارب "خرقة" يعتبرها شعب بأكمله رمزا لتمكن خصمك من التشنيع عليك في حين أنك تدرك أنك لن تجني من ذلك شيئا سوى الوبال الإعلامي ؟ إن المشروع الإسلامي ينبغي أن يغرس لدينا بإعتباره ضروريات ثم حاجيات ثم تحسينات ولا ينبغي أن يختل هذا الترتيب فضلا عن اختزال المشروع الإسلامي في فولكلورات حتى لا نصبح إمتدادا لصوفية مقيتة. وينبغي أن تفهم قواعد الإسلاميين كلها من أولها لآخرها ويغرس عندها كعقيدة أن العمل الجمعياتي، الفكري، الدعوي (إلخ...) والتي تمثل كل واحدة فيها ركيزة مهمة في العمل الإسلامي الذي نفهمه على أنه شامل لجميع جوانب الحياة، ينبغي أن يعلموا أن ملأ هذه الجوانب أصبح ضرورة ملحة لتخطي التجاوزات الحاصلة وتعبئة الفراغات التي لا يزال العمل الإسلامي يشكوا منها. وينبغي أن يعلم الإسلاميون أنه من الخطر بمكان أن يكونوا أرقاما تحسب في فرز الأصوات، أصفارا في سائر الأوقات.



dimanche 1 avril 2012

أبناء المشروع الإسلامي في مهب الريح - الجزء الأول



إن أي مشروع لا يقوم إلا على أكتاف من يؤمنون به إيمانا جازما ويحيطون بكل جوانبه ويعلمون خصوصياته وجميع حيثياته، وكلما زادت أهمية المشروع وعظم كلما تطلب جندية أكثر لمريديه. من هنا كان تركيز المفكرين الإسلاميين على نوعية الإسلاميين بدل تركيزهم على الكمية، فالكم لا يغني شيئا على حساب النوعية، "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة"، "وإذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا". صنّف هؤلاء المفكرون العديد من الكتب في تزكية النفس، وإذا علمنا أن الإسلام يركز بصفة خاصة على الروح وتزكيتها وعلى النفس وتنقيتها وعلى الأخلاق وإنمائها فضلا على صيانة علاقة العبد بخالقه من جهة وعلاقة العباد بعضهم البعض من جهة أخرى، علمنا أهمية الخطوة الأولى : تزكية النفوس، وهو جزء مهم نجد فيه عدة أبواب من قبيل الإخلاص، النية وما إلى ذلك من العقيدة السليمة وذم أمراض القلوب وذكر صفات وأخلاق المسلم كالإيثار والإحسان (إلخ ...). بعد إستيعاب هذا الجانب يشرع المسلم في التوغل في مسائل شمولية المشروع الإسلامي وخور ما دونه من مشاريع ثم يدرس الحركية في هذا المشروع وعلى رأسها النظام والعمل الجماعي وأولوية الهدف وتغييب الذات في سبيله على ألا يحسب الفرد منا للحظة أن قد أتم الجزء الأول، أقصد التربية الروحية، فإنها لا تفارق المسلم ولا يتعالى عليها إلا مكابر ولا ينبغي أن تمل النفوس من ذكرها وتعاهدها حتى لا تصدأ، ولا شك أن هذه الخطوات تأخذ من الوقت الشيء الكثير حتى يتم إستيعابها بالشكل المطلوب، بل ينبغي أن تملأ حياة الفرد منا من المهد إلى اللحد، ومن ثم العمل بما تعلمه الفرد منا، وهو الأهم، وكذلك العمل على تفادي أروقة الزيغ والإنحراف، وهو الأكثر أهمية فهو الأساس، وما يفيد المشروع الإسلامي من كان ذا وجه كالح وقلب مسود أو من لم يخلص نيته لله (؟). 

هذا ما نستخلصه ونتعلمه سواء مما يدلنا إليه علمائنا ويرشدونا إلى تعلمه الأول فالأول أو من سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهذا ما نلحظه جليا خاصة في بداية الدعوة المحمدية في معيار إختيار أصحابه لما كان إسلام الصحابة مقترنا بالشدة والعذاب والأهوال، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليعطي إعتبارا إلا للنفوس الملقاة عليها عاتق هذه المهمة في مرحلة الدعوة السرية، ثم لما أمر الرسول الأكرم بالصدع بما لديه كان لزاما عليه أن يصوغ من هؤلاء الرجال قرآنا يمشي فتكررت لقاءاته بهم في دار الأرقم ونهلوا من أخلاقه قبل علمه وسمته قبل حكمته صلى الله عليه وسلم فكانوا دعاة إلى دين الله قبل أن ينطقوا وقبل أن يأمروا وينهوا بل كانت أخلاقهم وديدنهم وتصرفاتهم في صميم الدعوة، أليس ذاك ما تعلموه من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعود جاره اليهودي الذي ما فتئ يؤذي النبي ؟ أم من تلك المرأة التي أعانها صلى الله عليه وسلم على حملها الثقيل فلم تجد له أجرة إلا أن تنصحه فشكرته وعرضت عليه النصيحة فقبل لتقول له إياك أن تتبع محمد ؟ فلما سمعت أن الرجل الذي أعانها هو من حذرت منه أعلنت إسلامها ؟ ولم تلبث هذه الأخلاق ذات الأنوار المنبعثة من هداه صلى الله عليه وسلم أن تنعكس على مرآة حال الصحابة رضوان الله عليهم فضربوا أروع الأمثال في الدعوة إلى الله بأخلاقهم. وسيرة سلفنا الصالح إمتداد لذلك فقد كانوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه رضوان الله عليهم وحري بدعوة حملها صناديد العلم والعمل أن تلقى صداها في الأرض وتنعكس النظريات المكتوبة إلى واقع ملموس يضفي بضلاله على جاهلية مقيتة.

كلنا يعلم أن الدعوة المحمدية قامت على أكتاف الشباب، لكن أي شباب ؟ إن الشباب الذي درس على يد الرسول الأكرم صلى الله عليه كان يتقن الإستماع لا السماع، والعمل لا التنظير، والمبادرة لا الإكتفاء بالمراقبة. وهنا وجب علينا أن ندرس حال أولئك القمم ونقارن بحالنا اليوم لعلنا نرتقي بأنفسنا ونتتبع الآفات والزلات لتفاديها.

من أبرز الآفات التي نلحظها هي الإهتمام المفرط بالسياسة ونسيان المنهج، لا شك أن المنهج مذيّل بالسياسة ولكن كما وضحت في بداية المقال أهمية المرحلية في عملنا والبدأ من بدايات الأمر لا من نهاياتها، فلا يحق لنا تجاوز المراحل حتى لا تكون خطواتنا خطوات أعرج فضلا على أن النهاية لا تصلح إلا إذا صلحت البداية ولا يستقيم الظل والعود أعرج، وإن كان الواقع قد فرض علينا في تونس أن ننشغل بالسياسة وتعجيل كسب معركتها فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن يغيب المجال الفكري والوعي بالمنهج والإحاطة به والعمل على الإستزادة من النهل من ينبوعه. إن فكر الحزب هو أساسه ولا حزب دون فكر ولا إنتماء للحزب دون وعي بمدار فكرته وأبعادها والإنتماء الحزبي الذي يسبق الإنتماء الفكري لا يكون ناجما إلا عن عاطفة لا تغني عن مشروعنا شيئا، وهل أن مشروعنا عاطفي أم أنه أضغاث أحلام حتى يكون لدى بعض شبابنا، بل حتى كبرائنا، ضبابيا غير واضح المعالم ؟ والحال أن الأقلام قد بلغ التعب منها مبلغا وهي تكتب في توضيح المشروع الإسلامي ومن الخور أن يدعي داع أن تلكم الأفكار إنما لعقلاء القوم دون عامتهم ولكبرائهم دون غيرهم وإن كان ذلك كذلك فإن هذا الإدعاء لا يدل إلا عن عقلية التواكل التي قد نخرت همم الشباب فضلا عن الشيوخ. أدى هذا الشرخ العظيم لدى بعضنا لسطحية التفكير بطريقة مقيتة حتى إنك تحاول جاهدا البحث على الفايسبوك على إحدى الصفحات الإسلامية التي تنشر المقالات الفكرية وتهتم بالمنهج الإسلامي وتبين خور المناهج الأخرى بالحجة والدليل فلا تجد أو تكاد، في حين أن عينك تقر بكل ما سوى ذلك من تفاهات الامور وسفاسف المواضيع حتى صار الفايسبوك _ والذي أعتبره من المعايير التي تمكنك من التقييم، إلى حد كبير _ مجالا لتضييع الأوقات وإستهلاك الطاقات عوض أن يكون محفزا لتجديد الهمم وشحذ العزائم وتبيين ما يرنوا إليه الإسلاميون. ولا شك أن السلسلة تستمر لتكون نتيجة هذه النتيجة التي ذكرتها هي حوارات بائسة هنا وهناك أقل ما يقال عنها أنها تضر دعوتنا ولا تنفعها، تنتطلق بالشخصنة لتنتهي عند أردئ الكلام لنصور بذلك صورة مشوهة عما ينبغي أن يكون عليه الإسلاميون، وهل تنتظر خلاف ذلك إذا ما علمت أن السلطة الرابعة منهكة في شتمنا وسبنا وكنا عونا لها لإثبات التهمة على أنفسنا بصفحات الفايسبوك في كثير من الأحيان ؟ فعوض ان نجعل من هذه الساحة الإعلامية مصدر قوة ودفاع جعلها بعضنا سيفا قد سلط على رقابنا، فكيف لك حينها أن تتحدث عن الصدق والأمانة والتبرأ من الباطل والإنتساب للحق في حين أنك تجد مئات الأمثلة من "الإسلاميين" التي تنقض دعاويك، تعلم خطورة هذه الظاهرة إذا ما علمت أن الإسلاميين يعطون أهمية قصوى للأخلاق فإذا ما غابت تساوى الإسلاميون مع غيرهم وهذا من الخطورة الشديدة بمكان، فهي طعن في صميم المنهج. توالت ثمرات "تغييب المنهج" لتولد عدم إلمام به لدى غالبية المريدين مع سطحية في شديدة في التفكير وفي دقائق الأمور كرستها ساحة الفايسبوك السطحية لتكون رادعا عن الأسئلة الجادة المنتجة للبحث عن الإجابات الكافية الشافية، هذه الضبابية والسطحية كافية لتجعل من الإسلاميين حصنا حصينا للمدافعة على القضايا الفاشلة وعدم الإهتمام بالقضايا الجوهرية وكم يؤلمني ويؤرقني أن أجد يوم 14 جانفي 2012 شيوعيون يتحدثون في حلقاتهم عن الفقر والجهات المحرومة ودخل الفرد في تونس والمديونية وقضايا أخرى مصيرية في حين أن إسلاميون من جهة أخرى يتحدثون عن علم سايكسبيكو الكفري مقابل راية العقاب راية العزة والتمكين والنصر والتي يقف في جهتها المقابلة يقف ضد راية الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان السببين المذكورين محفزا مهما لإختلاق الصراعات الوهمية ذلك اننا محامون بائسون عن القضايا الجوهرية المهمة ولا نجد لها حلولا ولا إجابات فشغلنا أنفسنا قبل الرأي العام بتفاهات اختلقناها لعلها تثير غبارا كافيا للتسلل بأقل إحراج في القضايا الهامة، للأسف. يمكننا أن نحوصل هذه النتيجة بأنها اهتمام بالأشكال والمظاهر لا غير، فعندما تجد الشيوعي يتحدث عن المفقرين ونحن نتحدث عن العلم، أو تجد إسلاميون يجمعون السلاح بنية الدفاع عن النفس في المستقبل في حين أن خصومنا السياسيون يتحصنون في المنظمات الحقوقية والنقابات، عندما تجد أن بعضنا لا زال يعتبر ابن علي ولي أمر في حين أن خصومنا يطالبون باسترداده ومحاكمته، وحين تجد بعضنا يحرم الصور وخروج المرأة وما إلى ذلك، تعلم سبب ما قاله الإمام الغزالي رحمه الله أن البعض ممن "يشتغل" بالفتاوى مثله كالجزار يبحث عن ضحية. ولن أفصل في هذه المسائل من ناحية شرعية فلها مجالها ولها من يجيب عليها ولكن سأتطرق هنا فقط للأسباب والنتائج لعلها تجد أذنا سامعة. لا يفوتني أن أذكر أيضا أن الكثير من الإسلاميين لا تعرف أي منهج يتبعون، ولربما تجد أحدهم في مقر حركة النهضة ولكنه مدخلي، وآخر اخواني ولكنه يبارك المنهج الجهادي، وهكذا، مؤكد ألا تفهمهم إن لم يكونوا هم أنفسهم لا يفهمون أنفسهم، وقد سمعتها من الكثيرين وغير مرة وهذا يدل على أن ثقافة فيديو الدقيقتين وستاتو السطرين قد تركت في البعض منا جرحا عظيما، وكانت من ثمرات هذا ألا تجد الإسلامي قد ثبت على حال، فتجده مع العلماني يدافع عن علوية القانون ولكنه ينقلب سلفي مع السلفيين ويدافع عن وجوب انتهاك القوانين الوضعية، وهكذا، ينقلب مع أي كان وتوجهه الريح حيث دارت، منهجه اللاطعم واللارائحة واللالون يذوب مع كل منهج آخر وينحل والأخطر أن يُبنى على كتف هؤلاء "مشروع".





jeudi 1 mars 2012

نحو أسلمة المجتمع ..


إعتمدت العولمة في عصرنا الحاضر على التكنولوجيا الحديثة في تصدير الثقافة الأمريكية حتى تعالت الدعوات في أوروبا من أجل العمل على حفظ الخصوصية الأوروبية، ولم تلبث أن تغولت العولمة في الدول الأوروبية على حساب بعضها البعض حتى خفتت أسهم بعض الدول وتسابقت أسهم دول أخرى لها وزن يؤخذ بالحسبان. تلمس ذلك في تقاليد تلك الدول وخاصة لغاتها المختلفة فقد أدركت أن مجابهة التحدي المفروض عليها لا يكون إلا بـ"عولمة داخلية"، إن صح التعبير، مما سيساهم في إحياء الخصوصية الذاتية وشد أواصر التقارب حتى لا ينفك العقد الذي يجمع بين الشعب الواحد وهذا ما أشار إليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه إشكاليات الفكر العربي المعاصر. لا بد من هذا المدخل البسيط الذي سيساهم في تخفيف استغراب القارئ للعنوان "أسلمة المجتمع" (؟) فهنا لا نقصد إعادة فتح جديد أو دعوة غير مسلمين للإسلام، بل إن ما أعنيه هو إحياء هذه العولمة الذاتية داخل المجتمع الإسلامي لمجابهة العولمة الخارجية التي أتت على تقاليدنا ومواريثنا وامتدت لتساهم في تفكيك الأبعاد الإسلامية فلم تبقي فينا ولم تذر (!) فلا معنى أن تعمل الدول الأوروبية على مقاومة هذا المد في حين تعجز البلدان العربية، على تشاركها في الدين واللغة والتاريخ والتقاليد، على أن تضع خطة متكاملة في هذا الجانب ولا غرو في ذلك حين ترى البعض يجابه كلمة "أسلمة" بكل حدة وكأنها دعوة للكفر البواح في حين يخبت قلبه إذا ما رأى قوافل السالكين تنحو نحو إنسلاخ من كل موروث وتتسابق نحو ما يسمونه إنخراط في الحضارة (طبعا الغربية) ولا يدركون ما وراء ذلك من تيسير للقضاء على حضارات العالم الثالث في ما سمي بصراع الحضارات وكوننا من بلدان العالم الثالث _ أو حتى الثاني كما يقول علي شريعتي _ يجعلنا في الجانب الأضعف والمستهدف. جانب كبير من المثقفين يدرك هذا ويعلمه علم اليقين ولكن يعتبر هذه الخطوة خطوة لازمة حتى تسهل عملية الترويج لإيديولوجيات أخرى، وهذا ما يندرج ضمنه كل عمليات التغريب التي رزخ تحتها مجتمعنا فترة غير وجيزة من الزمن وسلطت عليه جميع الوسائل الممكنة لتغريبه. لا شك أن هذه العمليات تركت أثرا بليغا في مجتمعنا وجرحا نازفا لا نزال نعاني منه ولن يتعافى في وقت وجيز فالتاريخ الحديث في بلداننا يروي لنا أسوء الوقائع وأسوء الأحداث مما جعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا لا يتميز على غيره بل فاقدا لخصوصياته جميعها ولا يغرنك من يحسب أن الإسلام مقتصر على الشهادة أو أنه صوم شهر وصلوات خمس فإن هذه النظرة القاصرة للإسلام هي التي أودت بالحضارة الإسلامية إلى جرف هار تساقطت فيه تباعا جميع مقاصد الشريعة الإسلامية وقيمها حتى صنف بعض المستشرقين العقيدة الإسلامية على أنها عقيدة قدرية لا تؤمن بالأخذ بالأسباب، وياليت قومي يعلمون ما علمه جعفر بن أبي طالب وهو يصف دينه للنجاشي رغم أنه في بدايات البعثة فتجده يعدد صفات الجاهلية من عبادة الأصنام وإتيان للفواحش وإساءة للجوار وقهر القوي للضعيف ثم يذكر التحول الذي طرأ على حياتهم بعد ان بعث فيهم رسول يعرفونه ويعرفون امانته وصدقه فعدد عليه خصالا وصفات حميدة دعاهم إليها الإسلام ساهمت في إعادة إحياء فطرة فيهم كانت قد انتكست مما مثل تحول كامل وتغيير شامل، هذا هو الإسلام الذي ينبغي أن يعيشه المسلمون اليوم في عصرنا، فالقارئ لكلام جعفر رضي الله عنه يعلم علم اليقين أن مجتمعنا اليوم هو مجتمع جاهلي _ إن استعملنا كلمة السيد قطب رحمه الله _ لم يترك سوءا إلا ارتكبه ولم يترك قاعدة إسلامية إلا انتهكها فترى الإسلام يأمر بالعفاف والمجتمع اليوم يسير نحو مزيد من الفواحش وتجد الإسلام يأمر بالرحمة ونجد المجتمع اليوم متجها نحو مزيد من شريعة الغاب "البقاء للأقوى" وتجد الإسلام يأمر بعدم الجهر بالمعاصي ومحاصرة الفساد في حين ان دولنا اليوم صارت الراعي الرسمي لانتهاك جميع الحرمات حتى أنك تستغرب وأنت تقرأ حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يدك معاقل حب النفس والشح فيعلن حربا شعواء على من بات شبعان وجاره جائع في حين أن دولا باكملها اليوم تبيت في أمن ودعة ودول الجوار تتضور جوعا وتموت عطشا (!) حتى أنك تشك إن كنت في مجتمع إسلامي لا يزال يؤمن بالبعد الروحاني في دينه أم أنك امام مجتمع مادي لم يسمع بالإسلام ودعوته. ما أسهل أن ندعي التقدم في حين أننا نعود للوراء، كذلك ما أسهل أن ندعي ان مجتمعنا مجتمع إسلامي في حين أنه مجتمع جاهلي.
أفرز هذا الواقع الذي تعاني منه الامة الإسلامية ردات فعل متباينة كثيرا ما كانت تطفو على سطح الواجهة الإعلامية الجانب المتبني للزجر والقوة والتغيير العنيف، فكان ما جنته الحركات الإسلامية من هذه السياسة وبالا ساهم في تأليب المجتمع عليها خاصة أننا في زمن خارت فيه شرعية السلطة كاملة فلا هي مستمدة من الشعب ولا هي حافظة لما ينبغي حفظه بل انقلبت سلطة ضد الأمة وضد الإسلام، غلو السلطة قابله من الطرف المقابل غلو مبني على عاطفة هوجاء تسارع نموها لتنبت ردات فعل مجنونة في مجتمعنا لم تبني بل ساهمت في الهدم ومحال أن يبني العنف والقوة خاصة إذا كان صادرا من جزء من المجتمع على جزء آخر منه وأجزم أن السلطة أيضا غير قادرة على فرض توجهها على مجتمعها خاصة إذا حاولت تجاوز الخطوات والقفز على المراحل وكلما طال وقت برنامجها _ أسلمة المجتمع _ كلما سهلت مهمتها في ذلك. وكما قلت في البداية فإن توجيه العولمة الداخلية في بلداننا هي السبيل الأمثل والذي يبدأ بترويج ثقافتنا وتقاليدنا وما يرمي إليه ديننا من مقاصد وقيم فينا وكل سبيل متيسر لتفعيل هذا فهو مطلوب ولا تحقرن من المعروف شيئا، فالمسلسلات والأفلام التي ننتجها من مالنا ومن جهدنا وتكرس في مجتمعنا القيم الغربية مطلوب أن تعاد "أسلمتها" لتنتج ثقافة تخدمنا فبداية الخلل امتد في عروقنا حتى صرنا نسير في مشروع تغريب أنفسنا دون إرشاد أو توجيه من أطراف أخرى، وهذا أقصى التغريب.
لا شك أن للدولة دورا فاعلا في هذا الأمر ولكن لا ينبغي أن يكون خادم المشروع الوحيد ولا ينبغي أن ينسى الإسلاميون أن السلطة مجرد أداة وليس غاية حتى لا يجارون أحداث السياسة وأحداث ما بعد الثورة العربية ويتناسون مشروعهم الأساسي مما يفقدهم هويتهم ويقوض أركان دعوتهم وذلك ما أهلك مشروع القوميين من قبلهم حين أخذهم بريق الكرسي فأنساهم ما كانوا يهدفون إليه. لا ينبغي أن تكون السلطة اللاعب الوحيد في هذا الجانب لأن السلطة إذا فقدت من يؤمن بمشروعها صارت "متسلطة" ومن هنا ندرك أن لأنصار المشروع الإسلامي دورا هاما أيضا ينبغي أن يؤخذ بالحسبان، لا يتمثل هذا الدور في مسايرة سياسة الحكومة والدفاع عنها و تبرير أخطائها والبحث عن أعذار هنا او هناك بل ما ينبغي أن يجعلوه همهم الاول هو بث أفكارهم والترويج لها من خلال التغلغل في المجتمع المدني بل ينبغي أن نذهب أبعد من ذلك ونقول من واجبهم تجديد فكرهم وصيانته من الإنحرافات. لا ينبغي أن تنسلخ السلطة من مشروعها ولا ينبغي أن يتناسى أبناء هذا المشروع هدفهم الأساسي ولا ينبغي ان ننسى الجانب الدعوي الذي يمثل ركيزة قوية تدعم المشروع الإسلامي وتساهم في أسلمة المجتمع والأهم من ذلك أنها تحد من الجانب الزجري في إنفاذ المشروع ونحن نعلم أن الدولة لا تتلخص في وزارة الداخلية ووزارة الدفاع والعدل بل إنها تشمل جوانب اخرى أعتبرها أكثر اهمية وتساهم بالقدر الأكبر في الحفاظ على ثبات المجتمع ومسايرته للمشروع الإسلامي وهنا يكمن دور الإسلاميين بمختلف فصائلهم. هو دور مهم ويحتاج لنفر من الناس لهم دراية واسعة وفكر مستنير وعلم مقترن بعمل في حين أن كل ما نملكه اليوم عندنا هو مجرد السلطة فقط وذلك ما يرسم مستقبلا قاتما مليئا بنقاط الإستفهام والتعجب، إستفهام حول مستقبل مشروع مرتكز أساسا على سلطة دون ذراع مجتمعي محيط بإيديولوجيته وتعجب من واقع حال الإسلاميين الذين كانوا بالأمس يعيشون تحت معطيات مخالفة تماما، إذا أدركنا هذه الامور يمكننا أن نقول أن بداية أسلمة المجتمع تبدأ أولا بأسلمة الإسلاميين أنفسهم (!) وهنا ينبغي أن تدرك الحركات الإسلامية أنها تخطت مرحلة مهمة من الدعوة الإسلامية _ أتحدث عن تونس على الأقل _ فقد تخطت دار الأرقم لتنتقل مباشرة إلى مرحلة المدينة وبناء دولة، تخطت مرحلة تكوين جيل قادر على حمل مشروع لتدخل التحديات دونه أو بجيل فاقد لخصائص جيل النصر المنشود، إن الواقع يفرض على الحركات الإسلامية في وقتنا الراهن أن تصارع على مختلف الجبهات وهي مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة إن تخطوا مرحلة تأسيس نواة صلبة قادرة على ثقل مشروع كهذا. فبداية أسلمة المجتمع تبدأ من أسلمة دائرة الإسلاميين أنفسهم. وإذا تكاملت السلطة وما يرنوا إليه المجتمع وما يعملون له تحققت الأهداف.  




vendredi 6 janvier 2012

حزب التحرير والبداية من النهاية

في البداية ينبغي أن أقول أنني لم أشأ أن أطرح هذا الموضوع لأنني حسبت، وليتني لم أحسب، أن أبناء المشروع الإسلامي يعملون لمشروع واحد نحو تحكيم الشريعة الإسلامية التي بها أعزّنا الله، ولكن تبيّن أنهم يعملون لمشاريع مختلفة وهدفهم قبل كل شيء تشويه أقرب الناس إليهم فكريا، ادرك تمام الإدراك أن هذا من الغباء الشديد أن تشهر سيوفك وتقيم الحروب الطاحنة التي ما لها من آخر على أقرب الناس إليك فكريا خاصة أن الغاية لا وجود لها، تحويل فرد من خدمة المشروع الإسلامي إلى .. خدمة المشروع الإسلامي ! أدرك تماما ان هذه السيئة كانت فينا من القديم ولا تزال إلى أن يشاء الله لها ذلك فالبارحة كان الخوارج يشهرون سيوفهم على الإمام علي رضي الله عنه ويحاربونه رغم أنه أقرب إليهم من معاوية وكانوا في صفه قبل أيام معدودة فانقلبوا عليه وقاتلوا أقرب الناس إليهم فذهبت جهودهم أدراج الرياح وهو الخطأ الذي وقع فيه الشيوعيون أيضا حين انقلبت مذاهبها تتطاحن في ما بينها وهذا حالنا منذ قرون. أؤمن أن أبناء المشروع الإسلامي يعملون لغاية واحدة، نظريا، أما عمليا فهم مختلفون بل متناحرون وسيبقون كذلك بسبب غباء البعض، يعجبني قول الإمام الطاهر بن عاشور في هذه المسألة فهو يلخص القضية بكلمات موجزة : (( لو قصر الخلاف على ما بين العلماء لكان أمر  التفريق يسيرا، ولكن حف به من الحمية والتعصب ما بعث كل طائفة على الانتصار بجماعة من العامة يلقونهم سطحيا مذاهب المخالفين، فتتخيلها العامة إلحادا في الدين، فانشقت الأمة تفاريق العصا )) (1). لذلك لا تتعجب إذا رأيت المغتربين تمكنوا عقودا من الزمن في بلادنا فخلالها كان الإسلاميون إذا ما بدأ أحدهم يضع اللبنات الأولى من مشروعهم قامت طائفة منهم تهدم هذه اللبنات وحسبت بهدمها ذلك أنها نصرت الحق نصرا مؤزرا حتى إذا تمكن غيرهم منهم عادوا يتابكون على ما فرطوا، ألم أقل أن هذا هو الغباء بعينه ؟ عادي، فقد عرف شبابنا بالهدم فقط.

السبب الرئيسي في هذا التشتت أن كل طائفة حسبت أن معها الحق المطلق وأنها تمثل دين الله في الأرض وهي مساوية للإسلام وغيرها مخالف للمنهج القويم وعلى ضلال مبين ونظر إلى المشهد الذي يراه من جانب واحد بينما نظر غيره من جانب آخر مختلف فحسب كل منهما أنهما أدركا الحقيقة في حين أن لكل واحد منهما جزء منها. هذه إشكالية حزب التحرير الرئيسية وماذا تنتظر من حزب يقول واصفا نفسه أنه : (( كان جديرا بأن تحتضنه الأمة، وأن تسير معه بل إنه واجـــب عليها أن تحتضنه وأن تسير معه لأنه الحزب الوحيــــد الهاضم لفكرته، المبصر لطريقه، الفاهم لقضيته، الملتزم بترسم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم دون حيد عنها )) (2) إذا واجب على الأمة أن تسير معه لانه الحزب الوحيد الذي يسير على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وما دونه فهو باطل لذلك لا تتعجب مثلا إذا قالوا أن "الإسلام يرى" أو "رأي الإسلام" في كذا عوض أن ينسبوا الرأي لأنفسهم (3). هذا ما يصنع مجموعة من الأشخاص كالقوالب التي ترى أنها الإسلام، غير مهم، تلك نظرتهم لأنفسهم، أما أن يقولوا أن أمة إذا أجمعت على ما يخالف الإسلام (( فلا يكون لإجماعها أي قيمة لأنه يتناقض مع أحكام الإسلام، فإن أصرت على ذلك تقاتل.)) (4) وحتى تتبين خطر هذه المقولة اضرب لك مثالا، هم يرون أن _ عفوا _ الإسلام يرى أن الديمقراطية باطل وأصر البعض على الرأي المخالف فإنهم، يقاتلون ! لا تحسب أن الإسلاميين الذين قبلوا بالديمقراطية حقهم مكفول في الدولة التي يسعى إليها حزب التحرير إنما ستقوم هذه الدولة على رقابهم وأشلائهم قبل كل شيء، إنها الثيوقراطية تتجلى يا مولاي. وأي ثيوقراطية أكبر من ثيوقراطية تجعل الخليفة (( غير محدد بمدة، بل هو محدد بتطبيق الإسلام )) (5) فلا مانع ان بقي الخليفة مدى الحياة، وهذا الخليفة (( هو الذي يباشر الحكم بنفسه ومن معه يكونون معاونين له يستعين بهم، ولا توجد لهم صلاحيات الوزراء في النظام الديمقراطي الجمهوري.)) (6) وطبعا هذا الخليفة الذي له كل هذه الصلاحيات سيحكم أرض المسلمين من مشرقها لمغربها وله كل هذه الصلاحيات لأن دولة الخلافة لا يجوز أن تكون اتحاد دول ولا يكون للمسلمين خليفتين إنما ينبغي أن يكون خليفة واحد، كما أن له، اطال الله عمره، (( وحده حق تبني الاحكام الشرعية فهو الذي يسن الدستور وسائر القوانين )) (7)، الطريق نحو الديكتاتورية وإعادة أخطاء الماضي مفتوح على مصراعيه أيها الخليفة فتفضل.

الإشكالية أن حزب التحرير يعتقد أن إقامة الخلافة سيجدها محفوفة بالورود وكلها عطر وفي اللحظة التي سيتسلم فيها الحكم في دولة ما ستستسلم له بقية الدول عن بكرة أبيها وتدعوا خليفتنا الموقر ليحكمها على جناح السرعة لذلك يعتقد أن له دولة قوية وعتيدة وعلى كلمة واحدة وألا وجود إلا للتحريريين القابلين بهذه الدولة لذلك فمن أولياته مثلا، (( إذا لم يقم بأداء الصلاة أو الصيام مثلا يعاقب وإذا سكر يعاقب وإذا زنا يعاقب وإذا خرجت المرأة عارية أو متبرجة تعاقب. )) (8) وهكذا يسير حزب التحرير على نفس طريق حركة طالبان ولم يبقى الاختلاف بينهم إلا قانونين اثنين وهما فرض اللحية ومنع المعازف في البلاد، هذه الطوبية التي يتبناها حزب التحرير ستؤدي به إلى نفس المصير الذي حدث لابن علي ولكن هذه المرة في أقل من ثلاثة وعشرون سنة بل في يومين اثنين.

ولم يفت حزب التحرير أيضا أن يعلن الجهاد من اليوم الأول على "الكفار"، فتراه يقول (( يهدف _ الحزب _ إلى هداية البشرية، وإلى قيادة الأمة للصراع مع الكفر وأنظمته وأفكاره، حتى يعم الإسلام الأرض. )) (9) ولذلك فإن (( الجهاد فرض كفاية ابتداء، وفرض عين ان هجم العدو، ومعنى كون الجهاد فرض كفاية ابتداء هو أن نبدأ العدو بالقتال وإن لم يبدأنا. )) (10) فـ((ـالدول وإن وكان بيننا وبينها معاهدات، إلا أنها تعتبر دولا محاربة حكما وذلك لأن كونهم كفارا لم يخضعوا لسلطان الإسلام فإنهم يعتبرون محاربين.)) (11) لذلك فإن مقاطعة جميع الدول الكافرة واجبة علينا (( ولا يجوز لدولة الخلافة أن تعقد اتفقايات عسكرية مع غيرها من الدول كإتفاقيات الدفاع المشترك والأمن المتبادل. وما يلحق لذلك من التسهيلات العسكرية، وأن تأجير القواعد، أو المطارات أو الموانئ، كما لا تجوز الاستعانة بالدول الكافرة ولا بجيوشها. ولا أخذ القروض أو مساعدات من هذه الدول.)) (12) طبعا بما اننا في تقدم علمي كبير والغرب الكافر يحتاجنا كثيرا ولدينا دولة عظيمة _ تونس _ لم تمر بها أي ازمة ويحتاجنا كل العالم فلا خوف علينا ! ولا بأس أيضا أن تكون الدول المحاربة والتي ساهمت في الحروب ضدنا على رأس قائمتنا حتى نقصفها بأسلحتنا المتطورة فـ((تطبق عليها أحكام الحرب الفعلية ما دامت حالة الحرب هذه قائمة بيننا وبينهم)) (13) واذكر مرة أخرى أن هذا القانون سيكون ساري المفعول في أي دولة قامت فيها دولة الخلافة ولو كانت "تجيبوتي" التي تعيش على المساعدات الخارجية.
طبعا هذه النظرة متأتية من التسرع وعدم الإيمان بالتدرج وعدم التحليل الدقيق لوضع المجتمع وفي مواضع أخرى بداية مشروعهم من آخره وعدم الانطلاق من الواقع فالجملة التي يرددها التحريريون "لا تجعل الواقع يغيرك وكن أنت مغير الواقع" جعلهم ينفصلون تماما من الواقع لينطلقوا في تنزيل الاحكام الطوبية على الواقع تنزيلا أعرجا وهم معصوبي العينين .. أن تجعل المشروع الإسلامي قالبا تنزله على واقع، أي واقع، بطريقة واحدة، فهذا عين الخطأ وما هكذا تؤكل الكتف. 
وسأتابع وجهة نظري في مقالات أخرى ان شاء الله.


(1) كتاب أليس الصبح بقريب للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص207
بقية الاقتباسات من كتاب "حزب التحرير" طبعة دار الأمة الصفحات على التوالي : 22/23-63-65-76-77-82-63-24-115-118-124

lundi 26 décembre 2011

الإسلاميون بين الثورة والحكم

كثيرا ما كان مصطلح "الإسلاميون" يرتبط بالمعاناة والجهاد والمصابرة والتشبث بحبال المقاومة والتمرد على واقع بلداننا الميتة، حتى صاروا رمزا للنضال وقمة الثورية، ويكفي أن كلمة "خوانجي" في تونس كثيرا ما نُطق على أثرها مباشرة "اُسكت وإلا توزرنا" فللفظ دلالاته في مخيلة الشعب وله أبعاده العميقة التي تمتد من فترة الاستعمار إلى مقاومة أذياله إلى المشاركة في الثورات العربية اليوم. هذا المسار الطويل كان له أبعاده في الفكر الإسلامي بصفة عامة حيث أنه كثيرا ما اتسم بـ"لذة" المقاومة، كما يرونها، وأهمية قول كلمة الحق عند السلطان الجائر حتى أنهم اعتبروا هذا العمل هو بمثابة إحياء أمة وهو من اهم أنواع الجهاد، أن تكون في أول صفوف مقاومة الظالمين والدفاع على حق المظلومين. أدّى هذا الحس الثوري لنحت شخصية الإسلامي حتى كادت أن تكون هويته هي "الرفض"، رفض جميع أشكال الظلم، رفض الواقع، رفض العمالة والخيانة والتواطئ ورفض السكوت على الحق، فالإسلامي الحق هو من لا يخاف لومة لائم. وقد أحسن محمد مختار الشنقيطي حين عبر عن هذا بقوله "الإسلاميون أقوياء في التمنّع"

بهذا المنطق نزل الإسلاميون بين من نزل خلال الثورات العربية وساهموا فيها من داخلها، فهذا ميدانهم وتلك ساحاتهم وخلف قضبان السجون أبنائهم وفي القصور الشاهقة جلادهم الأكبر، قطعا سيكونون في مقدمة الثائرين فالصفقة مع النضال لا تزال قائمة إلى يوم يبعثون. وبعد الثورات، استحقوا بجدراة الفوز بثقة الشعب وترشيحهم لمنصة الحكم. وأخيرا تصدر الثائرون منصة التتويج ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هل يصلح الثائر للبناء ؟ هل يستطيع من تمرس على الهدم أن يشرع في بناء دولة ؟ لا أشك البتة في القيمة العلمية للإسلاميين فالجلاد عرف حق المعرفة من يسجن إذ انه سجن أصحاب الفكر والقلم والكلمة التي تحدث رجة في نفوس الشعب، سجن كفاءات علمية وقيمة فكرية كبيرة وأقسم عليها ألا ترى النور، فالرجل الذي تختلط بداخله القيمة العلمية مع شجاعة الثائرين يشكل عقبة حقيقية امام النظام البائد، فعرف رأس الفساد عندنا أن القضاء عليهم هو الأساس الصلب الذي سيمكنه من الوقوف على الجثث الحية من أبناء هذا الشعب وترك في من ترك ثائرين لم يعرفوا الطريق الصحيح الذي يؤدي لقلب النظام فوقعوا في شراكه عند أول محاولة للظهور، وترك علماء عملاء كثيرا ما كان من خصالهم الكذب والنفاق وتزييف الحقائق، فما أغنى علمهم عنهم شيئا. لكننا اليوم نقف أمام مشهد آخر، فمساجين الأمس الثائرون صاروا إلى الحكم وأزلام كثيرة من المهادنين للنظام السابق لا تزال تمسك بمفاصل قوية في الدولة. لا أشك أن قيم الحكومة الحالية ستكون مخالفة للحكومات السابقة ولا مجال للمقارنة بينهم، تختلف العديد من الأمور الذاتية والقيمية وحتى العملية ويساهم واقع ما بعد الثورات ورقابة المجتمع الذي نسي كلمة الخوف والمتطلع للحرية والتقدم وتجاوز كبوات الماضي كل ذلك يساهم في استقامة حكومتنا الحالية ويذكرهم بالمطلوب منهم والمرجوا من عملهم، يذكرهم أنهم من الشعب وجزء منه ومطلوب منهم النزول للشارع، يذكرهم انهم خدام للشعب ومطلوب منهم الاستماع للمواطن البسيط ويبعث موجات قوية تتردد داخل أركان وزاراتهم من حين إلى آخر أن لقد انتهى عصر رخاء الحكومات واستمتاعها بآلام شعوبها في قصورها الفاخرة. كل هذه الامور اعتبرها في صالح الإسلاميين اليوم ولا أخشى منها شيئا وكل هذا سيدفع الإسلاميين لإثبات جدارتهم بثقة الشعب فأنا متيقن من قدرتهم على تقديم صورة ممتازة للعمل الإسلامي كما كتبوا عنها في كتبهم وتلقيناها وتعلمناها منهم. لكن الذي أخشاه على الإسلاميين بصفة عامة، رموزا وقواعد، أن يستلهموا من منطق الثورة قبسا ليضعوه في محل منطق الحكومة، فيفسدوا عملهم ويثبتوا فشلهم، وهو أمر ليس بهين خاصة عند قواعد الحركات الإسلامية وهو ما ينذر بالفشل الذريع في الموازنة بين ما يستعمل من سلاح في كل مكان، السلاح الذي سيؤدي للنجاح يختلف من مكان إلى آخر وعلينا إيجاد تلك الموازنة التي ستكسبنا الفوز في معركة الإصلاح، الموازنة بين استلهام هويتنا الثورية ورفع شعار المحاسبة قبل المصالحة وبين المهادنة والنفاق، الموازنة بين إصلاح احوالنا وبين الزج بالبلاد في صراعات داخلية متعددة الأطراف، الموازنة بين إقامة العدل بين الناس وبين مهادنة الظالمين، الموازنة بين الحفاظ على هدوء المجتمع الدولي وبين إثارة وتأليبهم علينا، ثم في الأخير الموازنة بين الحفاظ على رأي الشعب وثقتهم وبين إرسال رسائل موجعة لهم توحي إليهم أن الإسلاميين قد حادوا وبدلوا بعد أن فتح الله عليهم، نعم، الموازنة صعبة ولكن علينا إيجاد ذلك الخيط الدقيق الذي يفصل بين هويتنا التي تمرسنا عليها منذ زمن وبين ما كنا نراه مصدر بلاء للبلاد والعباد، بين الثورة وبين الحكومة، ألا تسقط على رؤوسنا وتخسر البلاد أولا وأخيرا.


 لا يزال يحاول الإسلاميون استيعاب أنهم صاروا أهل السلطة وفي حين أنهم لا يزالون يفتحون أعينهم أمام واقع مغاير ومعسكر ليس بالمعسكر الذي اعتادوا عليه يجدون جنودا بين أيديهم كانت في السابق تجلدهم والملفات التي بين أيديهم لا آخر لها، رحل النظام السابق ولم يرث الإسلاميون منه إلا وكر الفساد. إن أصحاب القرار يعلمون علم اليقين أنهم أمام رقعة شطرنج، كل حركة ينبغي ان تحسب لها ألف حساب، وفي حين أننا نعرف اللاعب الأول تتحرك البيادق المقابلة وحدها بطريقة غير منتظمة وعشوائية أو لنقل أننا نقف أمام عدة لاعبين من الجانب المقابل وأخطر ما في الأمر أننا نجهل هويتهم. كل حركة خاطئة يمكن أن تدمر حكومتك فالأطراف المقابلة لن تخسر شيئا بل المواطن البسيط هو الخاسر وسيكون الإسلاميون في الواجهة وستوجه لهم أصابع الاتهام من جميع الاطراف حتى تلك الأطراف المجهولة نفسها. يقع الإسلاميون اليوم في بحر من الضغوطات لا حصر لها، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي وكلاهما خطير ولكن يبقى الاخطر على الإطلاق أن يكون الضغط من داخل التيار الإسلامي نفسه فتتشتت الجهود وتذهب ريحنا سدى، وقد بدأ هذا بالتراكم فعلا ولا يمكن إيقافه إلا ببعض التعقل من جميع الأطراف وفهم الواقع الذي يفرض علينا الدخول لجحر الضب بحذر والأهم من ذلك عدم وقوع أصحاب القرار في الشبهات التي يمكن أن تكون عقباها لا تحمد، السياسي المتميز هو من يقرأ التحديات القادمة ويحاول تجنبها بمناورة من شأنها ان تخفف التحدي أو تزيحها والسياسي الفاشل هو الذي يقرأ التحدي القادم ويحاول تجنبها بمناورة توقعه في تحد أكبر وأعمق بل ربما تفتح عليه مجموعة من التحديات الأصعب. هذا ما أرددت أن ألفت نظر اخواني إليه، واذكرهم أنهم في أصعب وأخطر مراحل المشروع الإسلامي على الإطلاق بل إن فشل هذا التحدي يمكن أن يؤدي بهذا المشروع الوليد إلى الفشل الذريع. مجموعة من التحديات الصعبة ومجموعة من الأخطار والمواقف الصعبة التي ينبغي ان نسير في خضمها دون السقوط لا من على أيماننا ولا من جانبنا الآخر، الإستقامة على طريق الموازنة هي المطلوبة. ينبغي على أبناء التيار الإسلامي إدراك ذلك دون ضرب هويتهم الثورية وينبغي عليهم أن يعلموا أنهم ان اختاروا هذا الطريق سيخسرون الكثير من قاعدتهم الشعبية، ينبغي أن يعلموا أنهم بإمكانهم أن يفوزوا بهذه القاعدة على مصلحة بلادهم، ينبغي أن يعلموا أن كلاهما مهم، ينبغي أن يعلموا أن الإخلاص لله هو الأهم. ينبغي أن يعلموا أن للمعارضة ضريبتها وكذلك لتصدر الحكومات ضريبتها فما بالك ان كانت حكومة موروثة عن ثورة. وينبغي أن يعلم قياديوا التيارات الإسلامية في وقتنا الحالي أن ما أذهب الأنظمة البائدة هي الوعود الجوفاء وأن الشعب يمكن أن يصبر على وعد أو اثنين ولكنه لن يصمت إلى الأبد عن حقه ... أنتم تحت المراقبة من الإسلاميين قبل غيرهم والتخلي على عقليتنا الثورية يعني أننا انتهينا فحافظوا عليها يا أبناء سيد قطب.


jeudi 15 décembre 2011

الخطاب الإسلامي بعد الثورات


من الطبيعي أن تظهر تصورات بناء الدولة عند كل فئة من المفكرين العرب بعد هذه الثورات ويسمع صداها تتردد عند الرأي العام بكثرة،  ومن الطبيعي أن تظهر الأسئلة الكثيرة حول هويتنا وأهدافنا وطريقنا والوسائل التي تمكننا من تحقيق هذه الأهداف،  فهي أسئلة أساسية ولا بد من طرحها لمناقشتها وتناولها بطريقة مستفيضة فضلا عن النظر في القضايا على المستويين القريب والبعيد في الوقت ذاته، فتحديد علاقتنا _مثلا_ بالأراضي الفلسطينية المحتلة ليس مجرد كلاما في الهواء، إن ما يترتب على الإجابة على هذه القضية الهامة علاقات دولية كاملة وتحديد أهداف شعب من ألفها إلى يائها فمن ينظر إلى القضايا المستقبلية على أنها كلاما في الهواء ولا يبغي إلا الحديث على المستقبل القريب، مشكلة "الفقر" _مثلا_ التي كانت عاملا مهما بل أساسيا في قيام الثورة، ويحصر قضية بناء دولة على معالجة هذه الإشكاليات ففي الحقيقة هو يسير على نفس منهجية العرب السائدة منذ عقود، لقد كان همهم الإجابة على المشاكل المطروحة حولهم وفي زمانهم دون التوسع في طرح القضايا وتحديد اهداف بعيدة المدى حتى نقف على أرض صلبة فنعرف من نحن وماذا نريد وإلى أين نتجه، لقد أثبت البعض منا أنهم بهذا المنطق لم يتعلموا من تاريخهم ولا زالوا ينظرون إلى البرامج الآنية على أنها هي القضايا الأساسية دون غيرها في الوقت الذي يراهن عليه الصهاينة على برامج مستقبلية ترمي لقضايا عقود قادمة.

إذا نظرنا إلى ما يطرحه المفكرون الإسلاميون في هذه المرحلة فنجد الضبابية تتطغى على كتاباتهم وقد زادت في لبس هذه الكتابات مشاكل عديدة في الفكر الإسلامي تطرح نفسها بقوة أما السياسيين في الحركات الإسلامية فحدث ولا حرج،  فطرحهم منغمس إنغماس تام في الديبلوماسية والعموميات. لا شك أن العقلاء من فرقاء الإسلاميين السياسيين سينكبون بكل جدية على دراسة نتائجهم المخيبة لآمالهم وسيعدّون نقدا ذاتيا لخطاباتهم بل وتوجهاتهم ككل. ولا ينبغي أن يغفل الإسلاميون على هذه النقطة فالإنكباب على تطوير الفكر الإسلامي أمر مهم في هذه المرحلة، مرحلة ما بعد الثورات، أو دعنا نقل "توضيح" اهدافهم ومرادهم.

إن الحركات الإسلامية قامت بعد سقوط الخلافة مباشرة بهدف إعادة إحيائها من جديد وكذلك إعادة تحكيم شرع الله وإنفاذه في البلاد. إن المشروع الإسلامي الذي يتحدث عنه الإسلاميون قائم على "ان الحكم إلا لله" وهو ما يحيلنا مباشرة على الشريعة الإسلامية المشتملة على مبدأ الوحدة على أساس الإسلام أي الخلافة بغض النظر عن الاختلاف في ماهيتها وحيثياتها ولكن ما يهمني هنا هو المبدأ وهو الأمر ذاته بالنسبة للشريعة، فكل الإسلاميين يتفقون على هذين المبدأين ويختلفون في التفاصيل وهو أمر عادي بل مطلوب. وبكل تأكيد يختلف الإسلاميون في كيفية تصريف برنامجهم وإنفاذه بين من يقبل بالتدرج في إنفاذ الشريعة _ولهم اجتهاداتهم وأدلتهم في أدبياتهم_ وبين من لا يقبل بالتدرج _ولهم اجتهاداتهم وأدلتهم في أدبياتهم. ولا غرابة في هذه الإختلافات فأي مدرسة فكرية تشترك في الأصول وتختلف عند الفروع.

ولكن المحير والذي يلفت الإنتباه أن يكون هذا الأصل "ضبابي" وغير واضح لأبناء الإتجاه الإسلامي ذاته خاصة عند من لم يفرق بين النظرة إلى الغد في حدود الواقعية وبين النظر إلى "المشروع الإسلامي" على المستوى البعيد، أي التفريق بين الخطة المرحلية والخطة الإستراتيجية، وساهم في ذلك نوع من "التبرؤ" من عدة مصطلحات إسلامية مثل "خلافة" و"الشريعة" ووصل الأمر إلى أن حصر تحكيم شرع الله على "مقاصد الشريعة" بإعادة "العدل" و"الشورى" في الحكم و"المساواة" وما إلى ذلك من المصطلحات التي يتفق عليها الإسلاميون مع العلمانيين حتى "ميعت" الشريعة وغرقت في العموميات. وإذا كان العلمانيون واحزابهم يتفقون معنا على مثل هذه القيم فهل تكون بذلك احزابا إسلامية ؟ أو ان الاحزاب العلمانية لم تدعوا إلى العدل والمساواة ... ؟!

هذا من ناحية الخطابات "السياسية" والمناظرات التي تقدم للمواطن اما إذا اطلعت على كتب كل من الفريقين فيتضح لك مشروعهما والاختلاف التي بينهما ولا تبقى إلا المشاكل الفكرية التي يعاني منها المثقفين العرب أنفسهم في التوفيق بين التراث والحداثة وأعتقد ان المفكرين العلمانيين أثبتوا فشلا ذريعا في التوفيق إذ أنهم ركزوا جهدهم على محاولة الظفر بـ"الحداثة" في حين أن الإسلاميين قدموا مشروعا يشتمل على التوفيق بين الأمرين وساعدهم في ذلك منهجيتهم التي انطلقت من التراث للظفر بالحداثة على عكس الفريق الاول الذي تجاوز التراث إلى الحداثة وكانت النتيجة التي وجدها مشوهة.

التنصل من اهداف الحركة الإسلامية (بعيدة المدى) ينسف المشروع الإسلامي من أساسه أو يكاد ويساهم في وضع الحواجز في طريق متبني المشروع قبل المواطن لفهم هذا المشروع وإدراك الغاية منه واجزم أن عرض المشروع الإستراتيجي يساهم في إضفاء المصداقية والطمأنينة بين من اختار هذا المنهج ويساهم في رسم ملامح المشروع الإسلامي منذ بدايته. أما الإعتماد على توضيح البرنامج المرحلي فقط فستجعل من الإسلاميين انفسهم صورة فسيفسائية لا تستطيع ان تجيب على سؤال وحيد "ماذا تريد ؟ وإلى ما تطمح؟". والهروب من هذه الإشكالية لن يزيدها إلا تعقيدا. فمعالجة الأمر من أساسه هو الأهم وهو الذي سيساعد على جعل أفراد الحزب مجموعة أقرب إلى بعضها البعض واكثر حرصا على الوصول إلى هذا المشروع فضلا عن ان فهم الأهداف وتوضيحها ستساعد على خلق نواة حركية داخل الحزب لمواجهة الرأي العام ونشر وإقامة تمايز بين المشروع الإسلامي وغيره من المشاريع عوض أن يكون أفراد الحزب نصف منتمين ونصف مشروع ونصف إسلاميين حتى انك تخشى امام احدهم ان تقول "خلافة". ينبغي ان نصحح المفاهيم ونقدم مشروعا خال من المواقف الديبلوماسية ومن المراوغات السياسية وإنما يكون واضحا مفهوما لكل من أراد الإطلاع عليه. المواصلة على الطريقة الحالية يذكرني بطريقة العلمانيين "القفز" على التراث ولكن هنا المشكلة اعمق إذ انها قفز على الاهداف ! قفز على الفكر ! قفز على الذات ! الخوف كل الخوف على قواعد الحركات الإسلامية التي غابت عنها اهداف هذه الحركات ولم تفهم ماذا تقصد بـ"المشروع الإسلامي"، هذه الطعنة الثانية إذا واصل الساسة والمفكرين الإسلاميين على هذا المنهج بعد أن ظلت قطاعات واسعة ممن يؤمنون بالمشروع الإسلامي خارج دائرة المساهمة في العمل الحركي وتعطلت بذلك فاعليتهم في البناء ولا شك أن كل حركة تتنصل من اهدافها لن تجلب إليها فرقائها السياسيين ولن يلتف حولها أبنائها.

ما الذي يضير الساسة أن يوضحوا للناس أن مشروعهم الذي سجنوا من اجله هو إقامة الشريعة ثم يوضحوا لهم ماهية الشريعة والسبيل لإقامتها ؟ ما الذي يضيرهم إن قالوا بكل صراحة أن هدفنا هو أسلمة المجتمع ؟ وإقامة الخلافة ؟ وكل ما كتب في كتبهم وسطر بأناملهم ولم يقله لسانهم حاليا ؟
في خضم خوفهم هذا من طرح القضايا الإستراتيجية يحاول مخالفيهم استدراجهم للبوح بما يخفون وما لا يصارحون به عامة الناس فيراوغ الإسلاميون ويجيبون على الأسئلة في بعدها المرحلي فقط. هل أنتم مع مجلة الاحوال الشخصية ؟ نعم هي مكسب وطني وسنحافظ عليه ! وفي أفضل التصريحات يقال هي مكسب وطني ومطابقة للشريعة في "مجملها".  رغم أن الكل يعرف أن فيها مخالفات شرعية وكتب فيها الشيخ الزمزمي في التسعينات نقدا فضلا أن التصور الإسلامي للمجتمع لا يقف عند هذا الطرح بل يتجاوزه ليكون مؤطرا بالكتاب والسنة بعيدا عن سياسة اللبرلة، فلمَ لا يتم إعداد بحث مفصل فيها لنميز به بين الخبيث والطيب وبين التجديد الذي قاده الشيخ طاهر الحداد رحمه الله وبين التجاوزات التي تحسب عليه وتوجت في المجلة ؟ بعيدا عن مجلة الأحوال الشخصية،  ألم تسمع مثلا لتصريح الشيخ راشد الغنوشي وهو يقول أننا لن نغير نمط عيش المجتمع ؟ وكذلك تصريح الأخ رياض الشعيبي في نفس المسألة ؟ أو عند إجابة الشيخ راشد على سؤال المذيع الفرنسي حول إقامة الشريعة فأجاب لا لن نقيمها ؟ أو ان الخلافة الإسلامية وهم وهي قضية غير مطروحة ؟ وغير ذلك من التصريحات التي تصب في ذات الإطار ؟ أليس مهما ونحن نبتنى برنامجا إقتصاديا يكرس الرأسمالية وينحو منحى الليبيرالية أن نوضح للناس موقفنا منها ونفرق بين الإستراتيجي والمرحلي ؟ أليس تكريس الرأسمالية من أكبر الخطايا التي يمكن أن نرتكبها في مجتمعنا ؟ إن الحركات الإسلامية قائمة على المنهج الثوري فهي كما يصفها الشيخ راشد الغنوشي تطرح على نفسها برنامجا تغييريا شاملا يستهدف التغيير من الجذور، فلمَ لا يتم تحرير المصطلحات وتوضيحها للناس عوض التبرئ منها ؟ لمَ لا يتم التحدث عن أسلمة المجتمع على أنه تحشيد لأجهزة الدولة وإمكانياتها (من إعلام وتعليم وفنون ...) لغرس الأخلاق الإسلامية وترشيد المجتمع نحو الفضيلة ؟ ولم لا يتم التحدث عن الشريعة الإسلامية على أنها مقاصد واحكام وتطرح شاملة غير منقوصة على المجتمع عوض طرحها على انها مجرد مقاصد فقط لنتوافق في ذلك (من ناحية الخطاب) مع اليسار الإسلامي ؟ ولم لا يتم التحدث عن الخلافة على انها وحدة للدول الإسلامية إقتصادية واجتماعية وسياسية ؟ إن تحييد المصطلحات وتوجيهها وترشيدها هو المطلوب منا اليوم بدل ان نترك الفرقاء السياسيين يوجهون الشريعة الإسلامية نحو الحدود دون غيرها سواء أكانوا من الإسلاميين عن جهل منهم او من علمانيين عن سوء نية ومحاولة لتشويه الخصوم من قبلهم.  إنني أدرك تمام الإدراك أن هاته الإجابات جميعها تجيب على مستوى واحد وهو المستوى الحالي، المستوى الأول، فهي متعلقة بالسنوات القليلة القادمة التي سنعيشها ولم تتم الإجابة على المستوى الإستراتيجي. لذلك عندما تقرأ كتاب الحريات العامة والدولة الإسلامية أو غيرها من كتب الشيخ راشد وكتب المفكرين الإسلاميين والشيوخ تجدهم يتحدثون عن هذه الامور ويأصلونها ولكن أعتقد ان "خطابنا" الذي نتوجه به إلى الناس فيه العديد من النقائص التي ينبغي أن تراجع فقد فتت حصون الإسلاميين وزرعت الشكوك حولهم وهذه هي مغبة افتراق الخطاب السياسي عن التأصيل الشرعي والفكري والإكتفاء بالطرح المرحلي وعدم الغوص في أعماق المسائل لتحييد المصطلحات وإرجاعها لأصلها وطرح الموضوع بجميع حيثياته وتفصيلاته بدل إغراقه في العموميات. 

هذه إشكالية من إشكاليات "الخطاب الإسلامي" اما في دراسة ماهية المشروع الإسلامي وكيفية معالجته لكافة المشاكل التي تطرح على الفكر المعاصر فذلك ينبغي أن ينكب عليه المفكر الإسلامي بكل قوة وأن يكف عن ترديد كلمات مثل سماحة وسطية وما إلى ذلك من الصفات التي يردفها المفكر الإسلامي من حين إلى آخر وهو يصف المشروع الإسلامي ويتعدّا هذا الأمر إلى الانكباب على معالجة مشاكل أكثر جوهرية تطرح على مجتمعنا في الوقت الراهن، ما يؤسفني حقا ان المفكرين الإسلاميين يعيدون نفس المقالات بل والكتب مئات المرات ليثبتوا ان الاحزاب الإسلامية لا تتبنى العنف أو انها تؤمن بسماحة الإسلام أو غير ذلك من الأمور المعلومة عند العامي البسيط قبل المفكر. لنكف عن إجترار المسائل وإعادة صياغتها ومن اعتقد ان الفكر الإسلامي قد بلغ منتهاه فلا شك أنه لا يعرف معنى "فكر".