samedi 18 août 2012

على هامش حملة #إكبس

أطلق شباب من حركة النهضة حملة "إكبس" منذ فترة وجيزة تهدف للضغط على الحكومة لإنجاز أهداف الثورة والتي يقول أصحاب الحملة عنها أنها متباطئة في تحقيق هذه الأهداف وإنجازها خاصة أنها الوعود الانتخابية للأحزاب الممثلة للترويكا اليوم. 

قراءة في أسباب الحملة ..

عدم القطع مع أزلام النظام البائد، بل وتوليتهم مناصب داخل الحكومة والتعامل معهم عوض اتخاذ قرارات جريئة فيهم. التباطؤ في تطهير القضاء، الأمن، الإدارة وكذلك رجال الأعمال الفاسدين. ملفات البوليس السياسي والتي لم تفتح بعد فضلا عن المتورطين في جرائم النظام السابق بداية من مظلمة اليوسفيين إلى المظالم التي حدثت خلال الثورة. وغير ذلك من الأسباب التي دفعت شبابا من حركة النهضة إلى إطلاق هذه المبادرة حثا منهم للحكومة على القطع مع سياسة التردد والتي يعترف بها مسؤولين من صلب الحكومة فضلا عن كل متابع لسياستها. 
نستطيع أن نلاحظ من خلال الاسم الذي تم إطلاقه على الحملة، "إكبس"، عدة أمور منها أن الحملة تهدف أساسا لحث الحكومة على الحزم والتعامل بجدية مع كل متورط في تهمة ما خاصة تعطيل سير مؤسسات الدولة في هذه الفترة المفصلية من تاريخ البلاد أو تعطيل مصالح الدولة واقتصادها والسير العادي لمرافقها العمومية. فالدولة هي الحكم الذي يُلجأ إليه لفرض النظام وتحقيق المصلحة العامة وإذا ما انفرط العقد من يد الدولة حلت الفوضى وصار النظام بيد الأقوى ولعل الأقوى هنا يكون إما عشيرة أو حزب أو مجموعة من رجال الأعمال أو حتى نقابة، فالصرامة في التعامل مطلوب بل هي من أسّ مشمولات الدولة والتردد في التعامل بجدية مع مثل هذه الملفات يضعف الدولة ويفقدها مسؤوليتها. والاسم يدل أيضا على "رخفة" في تحقيق أهداف الثورة مما يحيلنا على أهمية "الكبس" في المضي في مسارها القاطع مع سياسات الماضي واتخاذ قرارات تكون في غالب الأحيان جامعة بين خطورة وأهمية وربما تقترن المجازفة بها في عديد الملفات الحساسة فذلك يبقى الخيار الثوري الذي ينقذ سمعة الحكومة ويكسبها ثقة المواطن عوض المهادنة التي يمكن أن تضعها في موضع الحَمَل الذي ينتظر موته إما بسكين من هادنهم أو بسكين من عقد فيهم الأمل عند انتخابهم. كلا الأمرين هنا مجازفة ولا شك أن الشباب الذي أطلق الحملة وصاغ أهدافها يرى في الخيار الثاني الخيار الأسلم الذي يحقق له الالتحام بالجماهير الرافعة لمطالب الثورة وإعادة ثقة المواطن في الحكومة.


ما وراء إطلاق الحملة ..

من اللافت للانتباه أن مطلقي هذه الحملة يدعون إلى تصحيح المسار الثوري الذي فقدته الحكومة وفي الوقت ذاته هم من المكون الأكبر لهذه الحكومة _ حركة النهضة الإسلامية _ مما دفع البعض للقول أن هذه الحملة مجرد بروباغندا سياسية صاغتها حركة النهضة باسم شباب منها ويقف وراءها قيادات الحركة. ورغم أن هذا التفسير التآمري لا يقف على أرضية صلبة لعدة أسباب سأبينها لاحقا إلا أن هذه النوعية من الفكر يدل على أن الساحة السياسية التونسية يشوبها بشكل واسع عدم ثقة وتشكيك كبير بين الاحزاب. وتتعدى هذه الظاهرة أنصار المعارضة تجاه أنصار الحكومة لتشمل أنصار الحزبين الآخرين من الترويكا الذي عرف كيف يتنصل من المسؤولية ويرمي جميع المشاكل لحزب واحد من الحكومة ولم يستطيعوا لعب دور الضاغط الداخلي على أحزابهم لقيادة القافلة نحو اهداف الثورة، وهو ما لعبه الآن أصحاب مبادرة "إكبس" من حركة النهضة في ظل التشكيك المتصاعد من قبلهم في الحملة. هذا ما يدفعني للتسائل إن كان هذا التحالف هو تحالف نخبوي للأحزاب لم يصل بعد للقواعد، وإذا ما يمكن أن يصل للقواعد ليشملهم في مرحلة أخرى، فالمشاكل التي تتعرض لها الحكومة وتعيشها تشمل أنصار جميع أحزاب الترويكا في حين أن المتابع يعتقد لوهلة أن أنصار التكتل والمؤتمر من المعارضة وعوض الدفع نحو تصحيح المسار خيروا التشكيك في حملة "إكبس" والدندنة بمنطق المؤامرة. 
لا يمكن أن تكون الحملة ضمن أجندة سياسية لحركة النهضة فالأجندة الوحيدة التي تملكها هذه الحركة ومن وراءها الحكومة هي تحقيق اهداف الثورة لا مجرد المطالبة  بها إذ أن بيدهم مقاليد الحكم اليوم وهم المكون الأبرز للترويكا ولو ضربنا جدلا أنهم من اطلق الحملة فإن إطلاقها باسم شباب من الحزب كفيل بتشويه هذه الحملة من بدايتها فإنشائها باسم شباب من الثورة أسلم لهم. لكن من الواضح أن أصحاب الحملة ممن لا يملك أمرا ولا نهيا وظل يدافع على مطالب الثورة ويطالب بها إلى أن تقطعت به السبل فأطلق هذه الحملة في خطوة أولى للضغط قابلة لاتباعها بخطوات اخرى تصعيدية حسب ما أفاد به بيان الحملة وناطقها الرسمي مصعب بن عمار.



ويمكن ان نستنتج من هذا ما تعيشه حركة النهضة في داخلها فخلافا لما يقوله البعض من اتهام لشبابها باتباع سياسة التجمع من تصفيق و"تبندير" ومضي على خطى القيادات في محاولة لتشويه الحزب نرى أن للشباب رأيه الذي قاده في آخر المطاف لهذه الحملة وظل متشبثا به طوال الوقت الذي رأى خلاله خورا ساءه في هذه الفترة الانتقالية. ولا شك أن هذه الحملة سبقتها مقابلات ومحادثات وسجالات طويلة بين القياديين وشباب الحركة ممن يتبنى مطالب هذه الحملة. لذلك، فإن هذه الفئة من الشباب والذي يمثل العمود الفقري للحركة سواء في الترويج لسياستها عبر الفايسبوك أو التعويل عليه في مكاتبها وتظاهراتها يمثل الخط الأول لتصحيح المسار داخل الحزب إن مال وتفريغ الحزب من هؤلاء يمثل خطرا بالغ الضر على البلاد قبل الحزب. ويمكننا أن نقول أن انتمائهم الفكري لحركة النهضة هو الرابط الأوثق بينهم وبين حزبهم لذلك ضلت هذه الحركة متماسكة في حين أن أحزابا اخرى تفجرت عند أول مضيق سياسي لها متوجهة نحو احزاب أخرى تحمل نفس الفكر بواجهة اسمية أخرى. بيد أن هذا الأمر لا ينبغي أن يؤخذ باعتباره مدح لحركة النهضة بقدر ما يؤخذ في مقام الحذر من بلوغ السيل الزبى كما بلغ عند إطلاق حملة "إكبس"، خاصة أن بيان الحملة تضمن عبارات من قبل "تصعيد" تدل على مسالك أخرى يمكن أن تتبناها الحملة.

حملة مضادة دون أهداف ..

ومما ينبغي ملاحظته أيضا الحملة المضادة التي سميت بـ"ارخف البندير" ردا على حملة "اكبس". ولا أدري ما أهمية هذه الحملة المضادة وما هي أهدافها إلا أننا يمكن أن ندرج هذه الحملة في إطار "التنبير" الذي يمكن أن نطلق عليه وصف تافه بامتياز نظرا لعدم قراءة الحملة قراءة جدية والاكتفاء بصياغة أفكار مسبقة على عدو هلامي يرونه في حركة النهضة وكل من انضوى تحتها. فأهداف حملة "اكبس" تعبر عن مطالب الثورة وسقف المطالبة عال ولا أظن أن أحدا من المحللين السياسيين يمكن أن يستشرف تحقيق هذه المطالب في القريب العاجل فتحقيقها صعب المنال ويحرج الحكومة ومن وراءها حركة النهضة ويوقعها في ازدواجية معايير بين الحفاظ على اقتصاد البلاد واتخاذ قرارات ثورية ضد رجال الأعمال ونقابيين وإعلاميين تورطوا في منظومة الفساد، وبين أن توكل تسيير شؤون عدة قطاعات لأصحاب سجل أبيض تنقصهم الكفاءة وبين أن توكلها لأصحاب سجل أسود يحسنون الإدارة، بين تحييد بعض الأعداء إلى حين وبين المعاداة الجذرية على أساس القطع مع أزلام النظام السابق ...
الواضح أن من أطلق هذه الحملة المضادة يدعو بكرة وعشيا لعدم انجاز هذه المطالب وعدم تحققها عسى أن يظفر بعدم ثقة المواطن بالحكومة الحالية وهذا الإنجاز الأبرز بالنسبة إليه ترقبا للإنتخابات القادمة. في حين أن الضغط الذي تبناه هؤلاء لم يتعدا قطع الطرقات والإضرابات وما يسمى بمحاولة قطع الأرزاق أما الضغط الإيجابي فقد تمت مواجهته بحملة مضادة بكل سرعة وبكل حزم، وهنا نسأل أليس منكم رجل رشيد، أليست تلك مطالبنا التي ينبغي أن نلتقي حولها ونجر إليها الحكومة جرا ؟!

إن أصعب ما تواجهه هذه الحملة هو إعادة تجميع القوى الشعبية التي وقفت في القصبة واحد والقصبة اثنين وفشلت في الإلتقاء مرة أخرى حول مطالبها طيلة هذه الأشهر الأخيرة. ربما يعود ذلك إلى أن المكون الأبرز لاعتصامي القصبة ظل ينتظر حكومته وحزبه ما الذي سيجنوه خلال فترة الحكم حتى تيقن أن المسألة أعمق من ذلك وتستحق إلى ضغط جدي لتوجيه مسار القرارات فأطلقوا المبادرة لإعادة الاحتكام لقوى الثورة من الشعب وإعادة لملمت الشمل للضغط الإيجابي والدفع نحو تحقيق مطالب الثورة.


lundi 30 avril 2012

أبناء المشروع الإسلامي في مهب الريح - الجزء الثاني


ذكرت في المقال السابق منهجية التربية الإسلامية وبناء الفرد المسلم،والذي يمثل دعامة الأسرة والمجتمع وماترتب بسبب غياب هذه المنهجية من إخلالات لا نبالغ إن قلنا أنها خطيرة وينبغي النظر إليها بجدية لمعالجتها، وهي في الحقيقة متوقعة لكل متابع واع بحال بلداننا فهو أمر عادي ناجم عن سياسة عقود ماضية من خلال تجفيف المنابع وفي أحسن الاحوال تلويثها والانخراط في السباق الإنتخابي إثر الثورة. وقد ذكرت أن الخلل في هذه المنهجية ينتج عنه خلل متسلسل في بقية الحلقات المرتبطة به، فكان من ذلك ضبابية في فهم وتصور المشروع الإسلامي لدى العديد من إخواننا والإهتمام بقضايا هامشية على حساب قضايا ذات أهمية قصوى وتشابك الأفكار التي نلتمسها جلية في شتى الحوارات مما نتج عنه عدم فاعلية لا في الحوارات المباشرة ولا في السجال في المواقع الإجتماعية فمثل ذلك صورة سوداوية لدى عامة الشعب حتى تخيل البعض أن الإيديولوجية مصطنعة لإلهاء الشعب والسجال السياسي لا يهدف لمشروع وإنما يهدف لوراثة الكرسي، فضلا عن الإهتمام بالجانب السياسي على حساب الفكري والتربوي والذي زاد في تعميق الأزمة ولعلي أزيد توضيح بعض الأفكار في هذا المقال وأتناول الموضوع بأكثر دقة مع ذكر جوانب أخرى وأمثلة واقعية.

أبناء المشروع الإسلامي ينقسمون إلى عدة تيارات تختلف في طرحها وتتباين في سبل التغيير التي تتبناها وكل منهم يسعى حسب اجتهاد العلماء والفقهاء الذين يثق بهم لتنزيل المرجعية الإسلامية على الواقع. وكل متتبع يعلم علم اليقين أن الإختلاف في التاريخ الإسلامي كان خلال فترات عديدة معينا لا ينضب لتجديد الفكر والتلاقح الناجم عنه التطور الذي يضمن مواكبة الزمن فكل جامد يندثر وكل ثابت يضمحل ولا يحدث التطور إلا بتعدد المدارس وتعدد الرؤى وتنوعها، ولذلك ورثنا في المكتبة الإسلامية عددا مهما من مجلدات تفسير القرآن مع أن القرآن واحد، فمثلت هذه المدارس ضامنا أساسيا في إثراء الفكر الإسلامي وتطوير الحضارة الإسلامية ولكن كان ذلك متعلقا بعلة إذا غابت غاب التطور ورزخ الحال حينها لا إلى الجمود فقط بل إلى التقهقر والتراجع. وفعلا كان هذا واقعا ملموسا عاشه المسلمون لمّا غابت هذه العلة، ألا وهي فقه الخلاف. إن المتتبع لمناظرات العلماء داخل المدرسة الإسلامية ينهل من الأخلاق قبل العلم وكما تعلمنا منهم "نحن بحاجة إلى قليل من الأخلاق أحوج منا إلى كثير من العلم" ندرك تماما أن الإختلاف حينها لا بد وأن يكون رحمة، كما قلت ليحصل التطور، وفي حال غياب هذا الفقه، فقه الخلاف، والذي نعني به حسن إدارة الخلاف في ما بيننا وحسن التعامل مع المخالف والمجادلة بالتي هي أحسن، في حال غيابه يحصل المحظور ويكون الإختلاف نقمة لا نعمة فنسترجع بذلك ذكريات حرق الكتب والمراجع والتنكيل بالمسلمين فضلا عن المشاهد الدموية في تاريخنا من إبادات لمجرد اختلاف بيننا وتقسيم في كياننا إلى معسكرات عدة بسبب بعض هذه الاختلافات رغم اجماع الكل على أن الفرقة بين المسلمين محرمة ولكن تغيب مواطن الإجماع إذا ما غاب فقه الخلاف فترتفع أسهم حمية الجاهلية لدى بعضنا لتجعل من أواصر الاخوة التي وثقها الإسلام هباء منثورا، وتكون عقيدة الولاء والبراء بين المسلمين أنفسهم وتستحل في ما بينهم البين ولكن يهذب تحت مسمى آخر : مخالفي مبتدع ويجوز هجره طالما أصر على بدعته. ويقذف كل واحد منهم الآخر بأنه يبدي ما لا يبطن ويجعله ممن قال الله فيهم "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا" وكأن أصحابنا لم يدركوا بعد أن من سنن الله في هذه الحياة الاختلاف ويعتقدون أن ما يملكونه هو الحقيقة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها فيألّهون أنفسهم لنجد بين أيدينا حينها "ثيوقراطيين" وخزنة لجهنم لا دعاة. وقد روي لنا "إلتمس لأخيك سبعين عذرا" وإن لم تجد فقل عسى أن له عذرا لم أعرفه، ولكن ما يحصل الآن هو عكس ذلك تماما، أسئ الظن في أخيك مطلقا حتى تعتقد أنه يبدي ما لا يخفي، ولا شك أن ذلك مرده الغرور والتعصب للرأي وقلة العلم فكلما زاد علم الفرد منا قل إنكاره. أليس هذا من ثمرات ما تطرقت إليه في المقال السابق ؟ غياب المنهج عنا ؟ إذا نحن نحصد الثمرة وهي بلا شك ثمرة من زقوم.

من حصيلة هذا الأمر أن يقع شرخ بين الإسلاميين حتى أنك تسمع عن من يهجر أخاه الذي قضى معه صباه لاختلاف نشب بينهما. وقليلا ما نسمع عن توازن في الحوار وتناغم بين المختلفين بيننا للأسف، وإذا أضفت إلى ذلك تردّي الأخلاق وتدهورها زاد الطين بلة وتدهور الوضع من سيء إلى أسوء.

ووازى كل هذا التعصب للرأي والتشبث به وليته كان تشبث بعد تمحيص بل هو التعصب الأعمى دون بحث ولا تدقيق، اللهم إلا نظرة سريعة على صفحات الفايسبوك والنهل من غزارة العلم الذي فيها، فحدث التحزب المذموم. ولا يعني التحزب ما يفهمه البعض "الإنخراط في حزب" فأن تكون منخرطا تحت لواء حزب لا يعني هذا فقدانك لشخصيتك ودفاعك الأعمى عن الحزب بل إن ذلك يعني أن الحزب الذي انخرطت فيه هو الأقرب إليك فكريا. ولا شك أن العمل الجماعي هو مجموعة تصورات ورؤى المجموعة كلها المتفق عليها دون أن يفقد كل فرد من المجموعة ذاته وفكره الخاص وتصوراته التي يمكن أن يخالف فيها بقية اخوانه، وهذا من معاني الشورى، والعمل الحزبي مندرج ضمن العمل الجماعي ويخضع للشورى والتوافق. فينبغي أن يُنتبه إلى أن كل صاحب فكر هو بالضرورة متحزب له وكل متبع لقائد أو مقلد لإمام هو متحزب له وهكذا ... والمعرة في ذلك أن يكون التتبعُ تتبع أعمى والتقليد دون تبصر والدفاعُ دفاعٌ عاطفي خاوٍ من كل منطق ومنهجية ولم يكن هذا أبدا منهجنا، بل تعلمنا من كتب العقيدة الولاء لله والبراء من الشيطان، الولاء للحق والبراء من الباطل، وما نتعلمه من كتب المحدثين في أول الاحاديث هو حديث النية والإخلاص للمولى عز وجل، وما نتعلمه من كتب فقهائنا ومفكرينا هو الدفاع عن الحقيقة لتسوية الأوضاع، ولا شك أن يكون نتاج ذلك حزب هدفه الأول والأخير تصحيح ما حوله من أخطاء ولا يستوي البتة أن يغيب هذا الهدف على أعضائه لإصلاح الحزب ذاته ان حاد عن سواء السبيل دون مواربة ولا خشية من الحقيقة فإن لم نفلح في إصلاح أخطائنا فمن باب أولى أننا أفشل في إصلاح ما حولنا. وللأسف يزعم البعض أنه يمكنه ان يكون ثوريا داخل مؤسسات الحزب (أو الجماعة، اخوانك في المنهج ...) مبررا خانعا خارجها (أمام مخالفيك). ومن نتائج السياسة التبريرية أن قتلت النقد الذاتي وتطوير الذات بل تعدى الأمر ذلك لتكون سياسة النقد الغائبة سدا ضد من يبغي التعرف عن المنهج ذاته وصورة من صور التحزب المذموم الذي يقتل الإسلاميين ويصهر شخصياتهم ويحجبها فيكون تأثيرها تأثيرا سلبيا وكما قيل من ثمارهم تعرفونهم ويضر بذلك الحزب أو الجماعة ولو كان داخلهما حراك قوي وتناقش وآراء متباينة. ولا ينبغي أن يُفهم هذا على أنه خرق لمعنى "الإنضباط الحركي" فإن الإنضباط الحركي لا يعني أن تنافق نفسك وتدافع عن قناعات ليست قناعاتك ولا يعني أبدا أن تردف الحجج وأشباهها أمام مخالفيك ثم تردف حجج مخالفيك أمام قيادات جماعتك وكبرائها، ومتى كان الإنضباط الحركي يعني إنفصام في الشخصية ؟ لا حاجة للجماعة إليك إن كنت دون رأي تميل مع كل ريح بل مع كل نسيم.

أما في الجانب المقابل فتجد من يشكلون المعارضة من أجل المعارضة، المعارضة لكل شيء، ينطلقون من تصورات طوباوية لإصلاح وضع جاهلي ويعتقدون أن الإصلاح إنما هو إصلاح ساعة أو أقل وأغلبهم هؤلاء لم يحسنوا إلا الهدم ولم يفلحوا في البناء لذلك لم يتقنوا إلا الطعن وعدم الرضا احترفوا النقد حتى إذا ما سألتهم عن البديل و"ما العمل ؟" وهو السؤال البديهي لإصلاح الأوضاع وتغييرها لم ينطق ببنت شفة، ولم يكن المشروع الإسلامي مشروع شعارات بل هو مشروع برامج وإحسان وإتقان في التغيير ومعرفة فقه التنزيل وفقه الواقع.

ستظل القواعد الشعبية للإسلاميين لغزا شائك إلى حين ترتيب أولياتها وتثقيفها فكريا حتى تبتعد عن التحركات المرتكزة على العاطفة وتزن المواقف بعواقبها، دون أن تغفل عن فقه الأولويات والموازنات. من الغريب أن تجد أحدنا في حياته الخاصة يتقن التصرف بحكمة ويعرف البقاع السوداء التي ينبغي تجنبها من البيضاء التي يطأها ويقف عليها ولكن ما إن تتشابك هذه المواقف مع الجانب الديني والقدسي في نفسه حتى تختل الموازين وتعلو القضايا الهامشية على حساب القضايا المرحلية الضرورية، أليس من الغريب أن تنتفض هذه القواعد من أجل كاريكاتور في حين أنها لا تنتفض من أجل موت إنسان جائع ؟ أليس من الغريب أن تحارب "خرقة" يعتبرها شعب بأكمله رمزا لتمكن خصمك من التشنيع عليك في حين أنك تدرك أنك لن تجني من ذلك شيئا سوى الوبال الإعلامي ؟ إن المشروع الإسلامي ينبغي أن يغرس لدينا بإعتباره ضروريات ثم حاجيات ثم تحسينات ولا ينبغي أن يختل هذا الترتيب فضلا عن اختزال المشروع الإسلامي في فولكلورات حتى لا نصبح إمتدادا لصوفية مقيتة. وينبغي أن تفهم قواعد الإسلاميين كلها من أولها لآخرها ويغرس عندها كعقيدة أن العمل الجمعياتي، الفكري، الدعوي (إلخ...) والتي تمثل كل واحدة فيها ركيزة مهمة في العمل الإسلامي الذي نفهمه على أنه شامل لجميع جوانب الحياة، ينبغي أن يعلموا أن ملأ هذه الجوانب أصبح ضرورة ملحة لتخطي التجاوزات الحاصلة وتعبئة الفراغات التي لا يزال العمل الإسلامي يشكوا منها. وينبغي أن يعلم الإسلاميون أنه من الخطر بمكان أن يكونوا أرقاما تحسب في فرز الأصوات، أصفارا في سائر الأوقات.



vendredi 6 avril 2012

ما لا يرويه الإعلام عن أحداث كلية الحقوق

.كالعادة تميز الإعلام التونسي بعدم حياده في نقل المعلومات الصحيحة مما صبغ الضبابية الشديدة في رؤية المواطن العادي وتقاطع الأخبار وعدم تجانسها بل وتعارضها في أحيان كثيرة. ولا أدل من ذلك نشرة أخبار يوم 5 أفريل والتي قال فيها الإعلامي الجهبذ "الاتحاد التونسي للطلبة الفصيل الطلابي لحركة النهضة" وهذا يدل على قلة وعي لدى الصحافيين وعدم مواكبتهم احترافيتهم أو على مكرهم الشديد لتضليل المشاهد والمتابع لأخبارهم البائسة. وكلنا يعلم أن الفصيل الطلابي لحركة النهضة اسمه "شباب النهضة بالجامعة" وكلنا يعلم أن الإتحاد التونسي نقابة بعيدة كل البعد على الأحزاب ومستقلة برأيها عنها منذ أول تاريخها، ولم تكتفي التلفزة اللاوطنية لذلك لتقول بكل وقاحة وتعلنها صراحة أنها تواصلت مع طرف واحد في كلية الحقوق دون إفساح مجال للطرف الآخر، ولا أعرف ان كان لم يصلهم اختراع اسمه الهاتف ليتصلوا بممثل عن هذا الطرف وذاك ليأخذوا وجهة نظرهما في ما حدث، لذلك وجب على المتابعين ومن تهمهم هذه الأحداث أن يتجندوا أمام أخبار الثامنة كلما جد على الساحة خبر ليتصلوا ويصححوا ويوضحوا فقد عجز الإعلاميون عن ذلك . لهذه الأسباب سيبقى الإعلام الموازي، ساحات التواصل الإجتماعية، هي الناقل الحقيقي للأخبار في ظل غياب الحياد لدى السلطة الخامسة مما يذكرنا في العهد البائد.
يوم الإربعاء 4 أفريل، نادي 3دي الذي ينشط في كلية الحقوق نظم تظاهرة ثقافية محورها يوم الأرض للتذكير بالقضية الفلسطينية. أعتقد أن مثل هذه التظاهرات ينبغي أن تلقى اهتماما وشد أزر من جميع الأطراف من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين ومن كانت له حزازيات من هذه القضية فينبغي أن يوجه بوصلته نحو فلسطين ويتحقق من ذلك جيدا وإلا فهو ليس منا. وحتى إن كانت للبعض حزازيات من قضية ما عرضها نادي سيبقى له الحق في النشاط داخل ساحة الجامعة والتعبير عن وجهة نظره طالما احترم القانون ولم يتعدى على أطراف أخرى. لكن الغريب في الأمر أن بعض الأطراف التي نصبت نفسها "إدارة" الجامعة، ولا أدري من خول لها تنصيب نفسها، كانت سباقة للتشويش على هاته التظاهرة الثقافية ومحاولة استفزاز المشرفين عليها وكان أبطال هذه المهزلة طبعا هم جماعة "النقرود"، فتعدوا على نشاط النادي وأفسدوا التظاهرة وتعدوا لفظيا على الاخوة بل والاخوات أيضا والعجب إذا علمت أن اثنا عشر شخص منهم يعتدي على "عبد الحكيم" بالضرب الشديد حتى بات تلك الليلة في مستشفى شارنيكول. وطبعا لم يسمع الإعلام بهذا فهو بارع فقط في إلتقاط ذبذبات اعتداء "ملتحي" في وسط صحراء قاحلة على أحدهم.
يوم الخميس 5 أفريل، نظم الفصيل الطلابي لحركة النهضة، وليس الاتحاد العام التونسي للطلبة، اجتماعا عاما في الجامعة للتنديد بهذا التصرف مع العاشرة والنصف بالتحديد. وبطبيعة الحال لا يغيب جماعة النقرود عن هذا الحدث ليظهروا من جحورهم فجأة علهم يرتكبوا بعض الحماقات في ساحة الجامعة فبزرت حينها الأسلحة البيضاء (سكين) عند أحدهم إلا أنه قد افتك منه السكين ووقعت حينها مناوشات بين الطرفين وكان الطلبة الإسلاميون متفوقون عددا على نظرائهم في حين أن نظرائهم تفوقوا عتادا ووقاحة. أكمل الفصيل الطلابي للنهضة اجتماعه العام وفي آخره لما كانوا يهمون بالخروج من الجامعة في المدرج كان سلاح النقروديين الوحيد هو الحجارة من فوق وكذلك طلب التعزيزات في أسرع وقت ممكن لعلهم يفلحون في ما أرادوا تصويره "طرد طلبة النهضة". وهنا نطرح بعض الأسئلة، أولا من أنتم حتى تطردوا طلبة من الجامعة ؟ ثانيا كيف تسمحون لأنفسكم باستعمال أسلحة بيضاء وحجارة وسط الجامعة ؟ ثالثا ما سبب هذا الإعتداء على طلبة بغض النظر عن توجهاتهم فهو أمر لا يهمهم ؟ رابعا ... الإعلام ؟؟؟
بعد خروج طلبة النهضة من الجامعة وورائهم حجارة منهمرة من ساحة كلية "الحقوق" التي تحصن بها من حسبوا أنفسهم أنهم يقاومون المحتل الصهيوني توجه الطلبة الإسلاميون للمسجد بهدف حشد أكبر عدد ممكن من الطلبة والخروج بمظاهرة في اتجاه كلية الحقوق تندد بهذا الاعتداء وهذه الانتهاكات المتكررة لحقوق الطلبة ومحاولة الحد من نشاطاتهم وحقهم في ذلك داخل جامعتهم. توجهوا للكلية فوجدوا هذه المرة تعزيزات كثيفة داخل الجامعة وأسلحة بيضاء متنوعة وطبعا كانت الحجارة حاضرة بكثافة داخل أسوار هذا الحصن، عفوا، أقصد الجامعة، التي يهددها طلبة يريدون دخولها لممارسة نشاطهم، ولكن أبطال النقرود المدافعون الأشاوس على جامعتهم التي ورثوها عن آبائهم صدوهم مرة أخرى باستعمال الحجارة، وللأسف الشديد كان ذلك بحضور أعضاء نقابة كنا نفترض أنها تدافع عن حقوق الطلبة جميعهم دون تمييز، الاتحاد العام لطلبة تونس اليسارية، والتي شاركتهم في صد طلبة من دخول الجامعة بحجة انهم غرباء عن الجامعة. فلم منعتم الطلبة صباح الخميس من ممارسة نشاطهم ؟ وهل أنكم متأكدون أن جميع من معكم طلبة ؟ طلبة النقرود قليلوا العدد ولا يكثر سوادهم إلا ممن يعرفونهم من "بلطجية" فقد كان عددهم صباحا أقل بكثير. منع الطلبة الإسلاميون من دخول جامعة الحقوق بسبب أنهم يريدون اقتحام الجامعة او أنهم ليسوا طلبة ولنذكرهم أولا أن لجميع الطلبة حق دخول الجامعة بما أنهم يملكون بطاقة طالب ولا حاجة لهم لاقتحامها وثانيا علينا ان نذكرهم انهم ليسوا ديوانيين ليراقبوا من له بطاقة طالب ممن ليس لديه بطاقة طالب واستعمالهم للحجارة لم يفسح لهم مجالا للتفكير أصلا في هذه الأمور ولكنها حجة من لا حجة له، ونذكرهم ثالثا أنهم طلبة حقوق وينبغي أن يتعلموا ان للدولة نظام محدد وقوانين يمكنهم اللجوء إليها لإحقاق الحق، وذاك ما نبغيه، دون طرق همجية.
استمرت المناوشات بالحجارة بين الطرفين، بين طرف يريد ان تبقى الساحة الطلابية ملكا له، وبين طرف آخر يريد أن يمارس حقه في الجامعة، حتى تدخل الأمن لتفريق من هم خارج الجامعة واستعمال الغاز المسيل للدموع لذلك.
ينبغي ان نذكر القارئ ان هذه المسألة انطلقت من تظاهرة نظمها طلبة إسلاميون للتذكير بفلسطين، ما الذي يجمعنا إن لم تجمعنا فلسطين ؟ سؤال لن تجد له جوابا. ويزداد تعجبك إذا ما علمت أن هذه الانتهاكات تحصل في كلية الحقوق، أي حقوق درسها هؤلاء الراديكاليون بربكم ؟ للإسلاميين الحق في ممارسة نشاطهم وفي عقد اجتماعاتهم العامة وهم مستعدون للدفاع على أي طرف آخر لتأمين حقه في النقاش والحوار ليكون الصراع في الجامعة صراع أفكار لا صراع أفراد. وهذا ما ذكر به شباب النهضة بالجامعة وأعادوه مرارا وتكرارا ولكن كيف السبيل للحوار مع من يمنعك من نشاطتك وإيصال صوتك للناس ؟ يذكرنا هذا بالعهد البائد حيث كان يمنع الناس من إيصال صوتهم وأفكارهم حتى إذا ما استبسلوا من أجل هذا الهدف وصمهم إعلام العار بالتعصب والتطرف. لقد علمتنا ثورتنا أن الساحة للجميع وينبغي أن تبقى كذلك وندافع عن حق مخالفينا في ذلك وهذا ما عاهدنا ربنا عليه، ولكنها علمتنا أيضا أن الكلمة لا تمنح، بل تفتك. وإن كان البعض لا يزال لا يفرق بين الطلبة التجمعيين وبين الطلبة الإسلاميين وأصابه عمى الألوان فاعتقد لوهلة أن كلاهما طرف واحد وكلاهما يلتقي عند الانتهازية والمنحة ويفترق عند المحنة فهو واهم، وليكن ما حصل البارحة درسا لمن يريد أن يرفض أي طرف آخر، أن الطلبة الإسلاميين إذا ما صعدت معهم صعدوا، وإذا ما استبسل الراديكاليون في الدفاع عن باطلهم استبسلنا في الدفاع عن حقنا ولا يهمنا ما يبلغنا من ضر من بعض وسائل الإعلام التي تخفي ضوء الحقيقة بإصبع، لقد اعتدنا على ذلك لمدة 23 سنة وسنواصل بإذن الله حتى ندحر ابن علي من وسط جامعتنا ولتكون جامعة للجميع. 




dimanche 1 avril 2012

أبناء المشروع الإسلامي في مهب الريح - الجزء الأول



إن أي مشروع لا يقوم إلا على أكتاف من يؤمنون به إيمانا جازما ويحيطون بكل جوانبه ويعلمون خصوصياته وجميع حيثياته، وكلما زادت أهمية المشروع وعظم كلما تطلب جندية أكثر لمريديه. من هنا كان تركيز المفكرين الإسلاميين على نوعية الإسلاميين بدل تركيزهم على الكمية، فالكم لا يغني شيئا على حساب النوعية، "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة"، "وإذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا". صنّف هؤلاء المفكرون العديد من الكتب في تزكية النفس، وإذا علمنا أن الإسلام يركز بصفة خاصة على الروح وتزكيتها وعلى النفس وتنقيتها وعلى الأخلاق وإنمائها فضلا على صيانة علاقة العبد بخالقه من جهة وعلاقة العباد بعضهم البعض من جهة أخرى، علمنا أهمية الخطوة الأولى : تزكية النفوس، وهو جزء مهم نجد فيه عدة أبواب من قبيل الإخلاص، النية وما إلى ذلك من العقيدة السليمة وذم أمراض القلوب وذكر صفات وأخلاق المسلم كالإيثار والإحسان (إلخ ...). بعد إستيعاب هذا الجانب يشرع المسلم في التوغل في مسائل شمولية المشروع الإسلامي وخور ما دونه من مشاريع ثم يدرس الحركية في هذا المشروع وعلى رأسها النظام والعمل الجماعي وأولوية الهدف وتغييب الذات في سبيله على ألا يحسب الفرد منا للحظة أن قد أتم الجزء الأول، أقصد التربية الروحية، فإنها لا تفارق المسلم ولا يتعالى عليها إلا مكابر ولا ينبغي أن تمل النفوس من ذكرها وتعاهدها حتى لا تصدأ، ولا شك أن هذه الخطوات تأخذ من الوقت الشيء الكثير حتى يتم إستيعابها بالشكل المطلوب، بل ينبغي أن تملأ حياة الفرد منا من المهد إلى اللحد، ومن ثم العمل بما تعلمه الفرد منا، وهو الأهم، وكذلك العمل على تفادي أروقة الزيغ والإنحراف، وهو الأكثر أهمية فهو الأساس، وما يفيد المشروع الإسلامي من كان ذا وجه كالح وقلب مسود أو من لم يخلص نيته لله (؟). 

هذا ما نستخلصه ونتعلمه سواء مما يدلنا إليه علمائنا ويرشدونا إلى تعلمه الأول فالأول أو من سيرة سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهذا ما نلحظه جليا خاصة في بداية الدعوة المحمدية في معيار إختيار أصحابه لما كان إسلام الصحابة مقترنا بالشدة والعذاب والأهوال، فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ليعطي إعتبارا إلا للنفوس الملقاة عليها عاتق هذه المهمة في مرحلة الدعوة السرية، ثم لما أمر الرسول الأكرم بالصدع بما لديه كان لزاما عليه أن يصوغ من هؤلاء الرجال قرآنا يمشي فتكررت لقاءاته بهم في دار الأرقم ونهلوا من أخلاقه قبل علمه وسمته قبل حكمته صلى الله عليه وسلم فكانوا دعاة إلى دين الله قبل أن ينطقوا وقبل أن يأمروا وينهوا بل كانت أخلاقهم وديدنهم وتصرفاتهم في صميم الدعوة، أليس ذاك ما تعلموه من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعود جاره اليهودي الذي ما فتئ يؤذي النبي ؟ أم من تلك المرأة التي أعانها صلى الله عليه وسلم على حملها الثقيل فلم تجد له أجرة إلا أن تنصحه فشكرته وعرضت عليه النصيحة فقبل لتقول له إياك أن تتبع محمد ؟ فلما سمعت أن الرجل الذي أعانها هو من حذرت منه أعلنت إسلامها ؟ ولم تلبث هذه الأخلاق ذات الأنوار المنبعثة من هداه صلى الله عليه وسلم أن تنعكس على مرآة حال الصحابة رضوان الله عليهم فضربوا أروع الأمثال في الدعوة إلى الله بأخلاقهم. وسيرة سلفنا الصالح إمتداد لذلك فقد كانوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه رضوان الله عليهم وحري بدعوة حملها صناديد العلم والعمل أن تلقى صداها في الأرض وتنعكس النظريات المكتوبة إلى واقع ملموس يضفي بضلاله على جاهلية مقيتة.

كلنا يعلم أن الدعوة المحمدية قامت على أكتاف الشباب، لكن أي شباب ؟ إن الشباب الذي درس على يد الرسول الأكرم صلى الله عليه كان يتقن الإستماع لا السماع، والعمل لا التنظير، والمبادرة لا الإكتفاء بالمراقبة. وهنا وجب علينا أن ندرس حال أولئك القمم ونقارن بحالنا اليوم لعلنا نرتقي بأنفسنا ونتتبع الآفات والزلات لتفاديها.

من أبرز الآفات التي نلحظها هي الإهتمام المفرط بالسياسة ونسيان المنهج، لا شك أن المنهج مذيّل بالسياسة ولكن كما وضحت في بداية المقال أهمية المرحلية في عملنا والبدأ من بدايات الأمر لا من نهاياتها، فلا يحق لنا تجاوز المراحل حتى لا تكون خطواتنا خطوات أعرج فضلا على أن النهاية لا تصلح إلا إذا صلحت البداية ولا يستقيم الظل والعود أعرج، وإن كان الواقع قد فرض علينا في تونس أن ننشغل بالسياسة وتعجيل كسب معركتها فإن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن يغيب المجال الفكري والوعي بالمنهج والإحاطة به والعمل على الإستزادة من النهل من ينبوعه. إن فكر الحزب هو أساسه ولا حزب دون فكر ولا إنتماء للحزب دون وعي بمدار فكرته وأبعادها والإنتماء الحزبي الذي يسبق الإنتماء الفكري لا يكون ناجما إلا عن عاطفة لا تغني عن مشروعنا شيئا، وهل أن مشروعنا عاطفي أم أنه أضغاث أحلام حتى يكون لدى بعض شبابنا، بل حتى كبرائنا، ضبابيا غير واضح المعالم ؟ والحال أن الأقلام قد بلغ التعب منها مبلغا وهي تكتب في توضيح المشروع الإسلامي ومن الخور أن يدعي داع أن تلكم الأفكار إنما لعقلاء القوم دون عامتهم ولكبرائهم دون غيرهم وإن كان ذلك كذلك فإن هذا الإدعاء لا يدل إلا عن عقلية التواكل التي قد نخرت همم الشباب فضلا عن الشيوخ. أدى هذا الشرخ العظيم لدى بعضنا لسطحية التفكير بطريقة مقيتة حتى إنك تحاول جاهدا البحث على الفايسبوك على إحدى الصفحات الإسلامية التي تنشر المقالات الفكرية وتهتم بالمنهج الإسلامي وتبين خور المناهج الأخرى بالحجة والدليل فلا تجد أو تكاد، في حين أن عينك تقر بكل ما سوى ذلك من تفاهات الامور وسفاسف المواضيع حتى صار الفايسبوك _ والذي أعتبره من المعايير التي تمكنك من التقييم، إلى حد كبير _ مجالا لتضييع الأوقات وإستهلاك الطاقات عوض أن يكون محفزا لتجديد الهمم وشحذ العزائم وتبيين ما يرنوا إليه الإسلاميون. ولا شك أن السلسلة تستمر لتكون نتيجة هذه النتيجة التي ذكرتها هي حوارات بائسة هنا وهناك أقل ما يقال عنها أنها تضر دعوتنا ولا تنفعها، تنتطلق بالشخصنة لتنتهي عند أردئ الكلام لنصور بذلك صورة مشوهة عما ينبغي أن يكون عليه الإسلاميون، وهل تنتظر خلاف ذلك إذا ما علمت أن السلطة الرابعة منهكة في شتمنا وسبنا وكنا عونا لها لإثبات التهمة على أنفسنا بصفحات الفايسبوك في كثير من الأحيان ؟ فعوض ان نجعل من هذه الساحة الإعلامية مصدر قوة ودفاع جعلها بعضنا سيفا قد سلط على رقابنا، فكيف لك حينها أن تتحدث عن الصدق والأمانة والتبرأ من الباطل والإنتساب للحق في حين أنك تجد مئات الأمثلة من "الإسلاميين" التي تنقض دعاويك، تعلم خطورة هذه الظاهرة إذا ما علمت أن الإسلاميين يعطون أهمية قصوى للأخلاق فإذا ما غابت تساوى الإسلاميون مع غيرهم وهذا من الخطورة الشديدة بمكان، فهي طعن في صميم المنهج. توالت ثمرات "تغييب المنهج" لتولد عدم إلمام به لدى غالبية المريدين مع سطحية في شديدة في التفكير وفي دقائق الأمور كرستها ساحة الفايسبوك السطحية لتكون رادعا عن الأسئلة الجادة المنتجة للبحث عن الإجابات الكافية الشافية، هذه الضبابية والسطحية كافية لتجعل من الإسلاميين حصنا حصينا للمدافعة على القضايا الفاشلة وعدم الإهتمام بالقضايا الجوهرية وكم يؤلمني ويؤرقني أن أجد يوم 14 جانفي 2012 شيوعيون يتحدثون في حلقاتهم عن الفقر والجهات المحرومة ودخل الفرد في تونس والمديونية وقضايا أخرى مصيرية في حين أن إسلاميون من جهة أخرى يتحدثون عن علم سايكسبيكو الكفري مقابل راية العقاب راية العزة والتمكين والنصر والتي يقف في جهتها المقابلة يقف ضد راية الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان السببين المذكورين محفزا مهما لإختلاق الصراعات الوهمية ذلك اننا محامون بائسون عن القضايا الجوهرية المهمة ولا نجد لها حلولا ولا إجابات فشغلنا أنفسنا قبل الرأي العام بتفاهات اختلقناها لعلها تثير غبارا كافيا للتسلل بأقل إحراج في القضايا الهامة، للأسف. يمكننا أن نحوصل هذه النتيجة بأنها اهتمام بالأشكال والمظاهر لا غير، فعندما تجد الشيوعي يتحدث عن المفقرين ونحن نتحدث عن العلم، أو تجد إسلاميون يجمعون السلاح بنية الدفاع عن النفس في المستقبل في حين أن خصومنا السياسيون يتحصنون في المنظمات الحقوقية والنقابات، عندما تجد أن بعضنا لا زال يعتبر ابن علي ولي أمر في حين أن خصومنا يطالبون باسترداده ومحاكمته، وحين تجد بعضنا يحرم الصور وخروج المرأة وما إلى ذلك، تعلم سبب ما قاله الإمام الغزالي رحمه الله أن البعض ممن "يشتغل" بالفتاوى مثله كالجزار يبحث عن ضحية. ولن أفصل في هذه المسائل من ناحية شرعية فلها مجالها ولها من يجيب عليها ولكن سأتطرق هنا فقط للأسباب والنتائج لعلها تجد أذنا سامعة. لا يفوتني أن أذكر أيضا أن الكثير من الإسلاميين لا تعرف أي منهج يتبعون، ولربما تجد أحدهم في مقر حركة النهضة ولكنه مدخلي، وآخر اخواني ولكنه يبارك المنهج الجهادي، وهكذا، مؤكد ألا تفهمهم إن لم يكونوا هم أنفسهم لا يفهمون أنفسهم، وقد سمعتها من الكثيرين وغير مرة وهذا يدل على أن ثقافة فيديو الدقيقتين وستاتو السطرين قد تركت في البعض منا جرحا عظيما، وكانت من ثمرات هذا ألا تجد الإسلامي قد ثبت على حال، فتجده مع العلماني يدافع عن علوية القانون ولكنه ينقلب سلفي مع السلفيين ويدافع عن وجوب انتهاك القوانين الوضعية، وهكذا، ينقلب مع أي كان وتوجهه الريح حيث دارت، منهجه اللاطعم واللارائحة واللالون يذوب مع كل منهج آخر وينحل والأخطر أن يُبنى على كتف هؤلاء "مشروع".





jeudi 1 mars 2012

نحو أسلمة المجتمع ..


إعتمدت العولمة في عصرنا الحاضر على التكنولوجيا الحديثة في تصدير الثقافة الأمريكية حتى تعالت الدعوات في أوروبا من أجل العمل على حفظ الخصوصية الأوروبية، ولم تلبث أن تغولت العولمة في الدول الأوروبية على حساب بعضها البعض حتى خفتت أسهم بعض الدول وتسابقت أسهم دول أخرى لها وزن يؤخذ بالحسبان. تلمس ذلك في تقاليد تلك الدول وخاصة لغاتها المختلفة فقد أدركت أن مجابهة التحدي المفروض عليها لا يكون إلا بـ"عولمة داخلية"، إن صح التعبير، مما سيساهم في إحياء الخصوصية الذاتية وشد أواصر التقارب حتى لا ينفك العقد الذي يجمع بين الشعب الواحد وهذا ما أشار إليه المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه إشكاليات الفكر العربي المعاصر. لا بد من هذا المدخل البسيط الذي سيساهم في تخفيف استغراب القارئ للعنوان "أسلمة المجتمع" (؟) فهنا لا نقصد إعادة فتح جديد أو دعوة غير مسلمين للإسلام، بل إن ما أعنيه هو إحياء هذه العولمة الذاتية داخل المجتمع الإسلامي لمجابهة العولمة الخارجية التي أتت على تقاليدنا ومواريثنا وامتدت لتساهم في تفكيك الأبعاد الإسلامية فلم تبقي فينا ولم تذر (!) فلا معنى أن تعمل الدول الأوروبية على مقاومة هذا المد في حين تعجز البلدان العربية، على تشاركها في الدين واللغة والتاريخ والتقاليد، على أن تضع خطة متكاملة في هذا الجانب ولا غرو في ذلك حين ترى البعض يجابه كلمة "أسلمة" بكل حدة وكأنها دعوة للكفر البواح في حين يخبت قلبه إذا ما رأى قوافل السالكين تنحو نحو إنسلاخ من كل موروث وتتسابق نحو ما يسمونه إنخراط في الحضارة (طبعا الغربية) ولا يدركون ما وراء ذلك من تيسير للقضاء على حضارات العالم الثالث في ما سمي بصراع الحضارات وكوننا من بلدان العالم الثالث _ أو حتى الثاني كما يقول علي شريعتي _ يجعلنا في الجانب الأضعف والمستهدف. جانب كبير من المثقفين يدرك هذا ويعلمه علم اليقين ولكن يعتبر هذه الخطوة خطوة لازمة حتى تسهل عملية الترويج لإيديولوجيات أخرى، وهذا ما يندرج ضمنه كل عمليات التغريب التي رزخ تحتها مجتمعنا فترة غير وجيزة من الزمن وسلطت عليه جميع الوسائل الممكنة لتغريبه. لا شك أن هذه العمليات تركت أثرا بليغا في مجتمعنا وجرحا نازفا لا نزال نعاني منه ولن يتعافى في وقت وجيز فالتاريخ الحديث في بلداننا يروي لنا أسوء الوقائع وأسوء الأحداث مما جعل من المجتمع الإسلامي مجتمعا لا يتميز على غيره بل فاقدا لخصوصياته جميعها ولا يغرنك من يحسب أن الإسلام مقتصر على الشهادة أو أنه صوم شهر وصلوات خمس فإن هذه النظرة القاصرة للإسلام هي التي أودت بالحضارة الإسلامية إلى جرف هار تساقطت فيه تباعا جميع مقاصد الشريعة الإسلامية وقيمها حتى صنف بعض المستشرقين العقيدة الإسلامية على أنها عقيدة قدرية لا تؤمن بالأخذ بالأسباب، وياليت قومي يعلمون ما علمه جعفر بن أبي طالب وهو يصف دينه للنجاشي رغم أنه في بدايات البعثة فتجده يعدد صفات الجاهلية من عبادة الأصنام وإتيان للفواحش وإساءة للجوار وقهر القوي للضعيف ثم يذكر التحول الذي طرأ على حياتهم بعد ان بعث فيهم رسول يعرفونه ويعرفون امانته وصدقه فعدد عليه خصالا وصفات حميدة دعاهم إليها الإسلام ساهمت في إعادة إحياء فطرة فيهم كانت قد انتكست مما مثل تحول كامل وتغيير شامل، هذا هو الإسلام الذي ينبغي أن يعيشه المسلمون اليوم في عصرنا، فالقارئ لكلام جعفر رضي الله عنه يعلم علم اليقين أن مجتمعنا اليوم هو مجتمع جاهلي _ إن استعملنا كلمة السيد قطب رحمه الله _ لم يترك سوءا إلا ارتكبه ولم يترك قاعدة إسلامية إلا انتهكها فترى الإسلام يأمر بالعفاف والمجتمع اليوم يسير نحو مزيد من الفواحش وتجد الإسلام يأمر بالرحمة ونجد المجتمع اليوم متجها نحو مزيد من شريعة الغاب "البقاء للأقوى" وتجد الإسلام يأمر بعدم الجهر بالمعاصي ومحاصرة الفساد في حين ان دولنا اليوم صارت الراعي الرسمي لانتهاك جميع الحرمات حتى أنك تستغرب وأنت تقرأ حديثا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يدك معاقل حب النفس والشح فيعلن حربا شعواء على من بات شبعان وجاره جائع في حين أن دولا باكملها اليوم تبيت في أمن ودعة ودول الجوار تتضور جوعا وتموت عطشا (!) حتى أنك تشك إن كنت في مجتمع إسلامي لا يزال يؤمن بالبعد الروحاني في دينه أم أنك امام مجتمع مادي لم يسمع بالإسلام ودعوته. ما أسهل أن ندعي التقدم في حين أننا نعود للوراء، كذلك ما أسهل أن ندعي ان مجتمعنا مجتمع إسلامي في حين أنه مجتمع جاهلي.
أفرز هذا الواقع الذي تعاني منه الامة الإسلامية ردات فعل متباينة كثيرا ما كانت تطفو على سطح الواجهة الإعلامية الجانب المتبني للزجر والقوة والتغيير العنيف، فكان ما جنته الحركات الإسلامية من هذه السياسة وبالا ساهم في تأليب المجتمع عليها خاصة أننا في زمن خارت فيه شرعية السلطة كاملة فلا هي مستمدة من الشعب ولا هي حافظة لما ينبغي حفظه بل انقلبت سلطة ضد الأمة وضد الإسلام، غلو السلطة قابله من الطرف المقابل غلو مبني على عاطفة هوجاء تسارع نموها لتنبت ردات فعل مجنونة في مجتمعنا لم تبني بل ساهمت في الهدم ومحال أن يبني العنف والقوة خاصة إذا كان صادرا من جزء من المجتمع على جزء آخر منه وأجزم أن السلطة أيضا غير قادرة على فرض توجهها على مجتمعها خاصة إذا حاولت تجاوز الخطوات والقفز على المراحل وكلما طال وقت برنامجها _ أسلمة المجتمع _ كلما سهلت مهمتها في ذلك. وكما قلت في البداية فإن توجيه العولمة الداخلية في بلداننا هي السبيل الأمثل والذي يبدأ بترويج ثقافتنا وتقاليدنا وما يرمي إليه ديننا من مقاصد وقيم فينا وكل سبيل متيسر لتفعيل هذا فهو مطلوب ولا تحقرن من المعروف شيئا، فالمسلسلات والأفلام التي ننتجها من مالنا ومن جهدنا وتكرس في مجتمعنا القيم الغربية مطلوب أن تعاد "أسلمتها" لتنتج ثقافة تخدمنا فبداية الخلل امتد في عروقنا حتى صرنا نسير في مشروع تغريب أنفسنا دون إرشاد أو توجيه من أطراف أخرى، وهذا أقصى التغريب.
لا شك أن للدولة دورا فاعلا في هذا الأمر ولكن لا ينبغي أن يكون خادم المشروع الوحيد ولا ينبغي أن ينسى الإسلاميون أن السلطة مجرد أداة وليس غاية حتى لا يجارون أحداث السياسة وأحداث ما بعد الثورة العربية ويتناسون مشروعهم الأساسي مما يفقدهم هويتهم ويقوض أركان دعوتهم وذلك ما أهلك مشروع القوميين من قبلهم حين أخذهم بريق الكرسي فأنساهم ما كانوا يهدفون إليه. لا ينبغي أن تكون السلطة اللاعب الوحيد في هذا الجانب لأن السلطة إذا فقدت من يؤمن بمشروعها صارت "متسلطة" ومن هنا ندرك أن لأنصار المشروع الإسلامي دورا هاما أيضا ينبغي أن يؤخذ بالحسبان، لا يتمثل هذا الدور في مسايرة سياسة الحكومة والدفاع عنها و تبرير أخطائها والبحث عن أعذار هنا او هناك بل ما ينبغي أن يجعلوه همهم الاول هو بث أفكارهم والترويج لها من خلال التغلغل في المجتمع المدني بل ينبغي أن نذهب أبعد من ذلك ونقول من واجبهم تجديد فكرهم وصيانته من الإنحرافات. لا ينبغي أن تنسلخ السلطة من مشروعها ولا ينبغي أن يتناسى أبناء هذا المشروع هدفهم الأساسي ولا ينبغي ان ننسى الجانب الدعوي الذي يمثل ركيزة قوية تدعم المشروع الإسلامي وتساهم في أسلمة المجتمع والأهم من ذلك أنها تحد من الجانب الزجري في إنفاذ المشروع ونحن نعلم أن الدولة لا تتلخص في وزارة الداخلية ووزارة الدفاع والعدل بل إنها تشمل جوانب اخرى أعتبرها أكثر اهمية وتساهم بالقدر الأكبر في الحفاظ على ثبات المجتمع ومسايرته للمشروع الإسلامي وهنا يكمن دور الإسلاميين بمختلف فصائلهم. هو دور مهم ويحتاج لنفر من الناس لهم دراية واسعة وفكر مستنير وعلم مقترن بعمل في حين أن كل ما نملكه اليوم عندنا هو مجرد السلطة فقط وذلك ما يرسم مستقبلا قاتما مليئا بنقاط الإستفهام والتعجب، إستفهام حول مستقبل مشروع مرتكز أساسا على سلطة دون ذراع مجتمعي محيط بإيديولوجيته وتعجب من واقع حال الإسلاميين الذين كانوا بالأمس يعيشون تحت معطيات مخالفة تماما، إذا أدركنا هذه الامور يمكننا أن نقول أن بداية أسلمة المجتمع تبدأ أولا بأسلمة الإسلاميين أنفسهم (!) وهنا ينبغي أن تدرك الحركات الإسلامية أنها تخطت مرحلة مهمة من الدعوة الإسلامية _ أتحدث عن تونس على الأقل _ فقد تخطت دار الأرقم لتنتقل مباشرة إلى مرحلة المدينة وبناء دولة، تخطت مرحلة تكوين جيل قادر على حمل مشروع لتدخل التحديات دونه أو بجيل فاقد لخصائص جيل النصر المنشود، إن الواقع يفرض على الحركات الإسلامية في وقتنا الراهن أن تصارع على مختلف الجبهات وهي مهمة صعبة ولكنها ليست مستحيلة إن تخطوا مرحلة تأسيس نواة صلبة قادرة على ثقل مشروع كهذا. فبداية أسلمة المجتمع تبدأ من أسلمة دائرة الإسلاميين أنفسهم. وإذا تكاملت السلطة وما يرنوا إليه المجتمع وما يعملون له تحققت الأهداف.  




mardi 14 février 2012

وجدي غنيم، عبد الفتاح مورو والعلمانيين في تونس

ليلة البارحة تركت الفايسبوكيين يخوضون حربا شعواء على عبد الفتاح مورو إثر تصريحه على القناة اللاوطنية بخصوص حضور وجدي غنيم في هذا الفيديو. والاتهامات تعددت وكثرت من اتهامات بالنفاق إلى اتهامات بأنه شيخ العلمانيين إلى الجهل إلى غير ذلك من السب والقدح مما يخيل إلى الشخص الذي لم يستمع إليه أنه قال كفرا بواحا أو أنه سب وجدي غنيم أو أتى إفكا صراحا. لذلك ينبغي أن أذكر ملخص بسيط لأقواله مع تعليق عليها حتى يستوعبها ويقرأها برصانة الذي لم يستمع إليه أولا والذي يحمل في صدره كرها وحقدا على الشيخ عبد الفتاح مورو ثانيا ومن سبه قبل أن يستمع إليه أو يفهم ما قاله ثالثا.
بدأ الفيديو أولا بالترحيب بوجدي غنيم وذكر أن هؤلاء لا يشك أحد لا في علمهم ولا في صدقهم ثم ذكر أن الفتاوى تختلف باختلاف المكان والزمان ولكل بلد واقعه وحلوله وأفاض في هذا واستدل بمذهبي الإمام الشافعي وكل دارس لأصول الفقه أو من يشتم رائحة علم الأصول يعلم هذا في باب العرف فلم يكن حديث الشيخ عبد الفتاح بدعة في ذلك ولا أتى بشيء من عنده، فهل يسبونه لأنه ذكر قاعدة أصولية معروفة ؟ بعد ذلك ذكر أن تونس بلد ذا قيمة علمية لا يستهان بها ويشهد لها التاريخ في ذلك فهي بلد الزيتونة وكبار العلماء، فهل هذه النقطة تستحق السب والشتم ؟
 ثم قال أن من يبشرون برؤيتهم القاصرة على واقعهم وينقلونها إلى واقعنا نقلا هم يساهمون في الفتنة وليس في الإثراء وربط "الفتنة" بفهم الشباب الذي يظنونها الحقيقة المطلقة وتحدث عن نسبية الفهم وكل يؤخذ منه ويرد إلا الرسول عليه الصلاة والسلام ثم قال "مرحبا بيه ونبوسوه بين عينيه" وذكر مثالا عن اختلافهم في مسألة الديمقراطية وشرحها حسب رؤيته والتي خالف فيها الشيخ وجدي غنيم، فقصد الشيخ عبد الفتاح مورو واضح في أن فهم بعض الشباب على أن ما يحمله شيوخ المشرق هو سبب الفتنة وليس مجرد قدومهم، وأذكر مثالا بسيطا على ذلك وهو قدوم بعض شيوخ السعودية المرة الفارطة من أصحاب فتاوى تحريم الخروج على الحاكم والذي يأخذها بعض الشباب على أنها مسلمات ولربما يكفرون بها الشعب التونسي أو على الأقل يفسقونه لأنه ارتكب إثما وخرج على حاكمه وقس على مثل ذلك في عديد الاختلافات الأخرى ولكنني أحسب أن رأي الشيخ عبد الفتاح مورو احتاج لتوضيح أكثر حتى لا يفهم البعض من كلامه على أن مجرد قدوم علماء المشرق "فتنة" خاصة أنه أعاد الترحيب به في الفيديو أكثر من ثلاثة مرات فيكون بذلك تعارض في فهم البعض بين "الفتنة" و"الترحيب" به. قبل أن تحدث هذه الزوبعة على ساحات الوغى الفايسبوكية، كما يحلم بها البعض، علقت على كلمة وجدي غنيم "يختلف العلماء ولكن الأمة لا تختلف ولا تتفرق" فقلت "هذا هو المفروض يا شيخنا لكن ما نراه اليوم هو تختلف العلماء فتختلف الأمة لحد التكفير والتخوين بل وإراقة الدماء." وهذا ما لامسته فعلا بعد سويعات قليلة فنحن أمة فشلت فشلا ذريعا في إدارة مجرد خلاف بسيط فما بالك بالاختلافات الجوهرية.
بعد ذلك تحدث الشيخ عن احتقار الشباب لعلماء الزيتونة وهذا فعلا مكمن الداء للأسف الشديد فكثيرا ما نجد الشباب يقول "وأين هم هؤلاء العلماء ؟"، "بلا بلا بلا بلا" ... وأقول له باللهجة العامية، لانها تعبر هنا بطريقة أفضل بكثير، " قوم مرمزك وما اقل حياك ثما عشرة لاف مدرسة تقري في العلوم الشرعية ياخي علماء التوانسة بش يجوك للدار وانتي مادد ساقيك وحال عينيك في الفايسبوك ونهار كامل تسب فيهم وتقلل في حياك معاهم وتقول هوما ما يحبوش يقرو ويكتمو في العلم ؟ مفرخ فايسبوك تاع وذني تعلمو كان قلة الحياء مارمزكم". للأسف الشديد هذا هو الجيل الذي يتباكى على عهد كبار العلماء لا تجده إلا محترفا سب علمائه وتحقيرهم، لا أتحدث عن الشيخ عبد الفتاح مورو ولكنني أتحدث على علماء تونس بصفة عامة وعلماء الزيتونة بصفة خاصة، تجد عالما تونسيا له من العلم ما له لا يحضر لحلقاته إلا العدد القليل من الشباب تعدهم على أصابع اليد في حين أن "عالما" غير معروف وليس له من العلم شيئا يحضر له الشباب بالعشرات والمئات لا لسبب إلا لأنه ليس تونسيا فهو من أدغال إفريقيا أو من قبائل الواق واق، أعتقد اننا بحاجة إلى ذلك الإشهار الذي فيه شعار "إللي في عينك حلى مش كان من البرا جاء" ليس على البضائع فقط كاللباس الزيتوني وما إلى ذلك بل حتى في الفكر سواء الديني أو الدنيوي، طبعا ينبغي أن أقول أنني أتحدث بصفة عامة هنا ولا أتحدث لا على الشيخ وجدي ولا عبد الفتاح (البعض يحتاجون لحاشية حتى يفهموا ما يقصده المتكلم وأمرنا لله واكهو).
لذلك، وبعيدا على موضوع وجدي غنيم، حذر الشيخ عبد الفتاح الشباب من الإنفصال على المجتمع ودعاهم للحفاظ على المكاسب التي حققوها ثم ذكر أن الإسلام ليس مجرد مظاهر وإنما قبل كل شيء الاستقلال السياسي والاستقلال الإقتصادي وكلنا مسؤولون على تحقيق ذلك.
ثم عاد الشيخ عبد الفتاح لموضوع وجدي غنيم وقال أن "الفتاوى التي ينقل فيها تتعلق بالواقع الذي يعيش فيه وهو غير ملام على ذلك ولكنه ملام على أن ينقلها إلينا لأن في بلدنا واقع آخر والإسلام يعالجها ولدينا الدواء." صحيح أستاذي الفاضل عبد الفتاح لدينا علماء، وصحيح أستاذي الفاضل واقعهم غير واقعنا وأوافقك حول ما تقوله لكن أستاذي الفاضل ينبغي أن تشير إلى موضوع مهم يوقعنا في إشكالية عويصة إن لم تذكرها بل وتشدد عليها، عندما نقول الواقع غير الواقع أستاذي فهذا لا ينبغي أن يكون سدا في التواصل مع العلماء المشارقة وان قلنا ان واقعهم غير واقعنا فكان الاولى والأجدر بنا أن نقطع جميع الصلات مع الغرب فواقعهم أبعد بكثير والصلة مع المشرق يعتبر في هذه المقاربة هو واقعنا تقريبا والاختلافات الفقهية المبنية على العرف ليست بهذا البعد الذي "يمكن أن يفهمه البعض" من علاقة قطعية كادت ان تكون تضارب في اختلاف الفتوى وما هو مقبول هنا ليس مقبولا هناك خاصة اننا من اتباع مذهب الإمام مالك ولا يقول أحد أنه من بلد الزيتونة، الكلام هكذا أستاذي الفاضل يكون مبتورا ومعناه غير تام ان لم تشدد على هذه النقطة وهذا ما يريد ان يجرنا إليه علمانيونا حتى يأخذوا اعترافا بعظمة ألسنتنا أن ما يقوله أولئك الشيوخ لا نأخذ به في حين أن ما يقوله الغربيون نضعه في باب الأخذ بالتقدم والديمقراطية والتطور ودخول العصر وما إلى ذلك من المصطلحات البراقة، هي في الأخير حرب إعلامية وجب ان ننتبه لها ووجب أن نأخذ بزمام الأمور فيها لا أن نقع في الفخ والشراك الذي نصبوه لنا. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن هؤلاء العلمانيون أنفسهم الذين احتجوا على قدوم وجدي غنيم، هم أنفسهم الذي احتجوا على تصريح وزير الثقافة الذي ذكر أنه ضد حضور نانسي عجرم وإليسا في مهرجان قرطاج وهنا تصريحه فسياسة الكيل بالمكيالين هي المعتمدة عندهم وينبغي علينا التنبه إلى ذلك وإغتنام فرصة الحضور الإعلامي لتذكير الناس بهذه المعادلة وليس من المعقول ألا نرى علماء الزيتونة إلا وهم منساقون ضمن الحملة الإعلامية التي يشنها العلمانيون على منابرهم وهم يقدحون في علماء المشرق أو أي إسلامي آخر. حددوا أهدافكم من يستغلونكم يرحمكم الله ولا للكلام المبتور فهو سبب التفرقة والفتنة.
الحملة المسعورة التي يشنها البعض على الشيخ عبد الفتاح مورو لم تكن هي الدافع في كتابتي لهذا المقال أبدا فالكثير لا يعرف الشيخ عبد الفتاح من حيث علمه أو صبره وهو الذي كان في عهد المخلوع يستعمل شاحنة لنقل كتبه التي يقرأها من كثرتها، والذي صبر على الأذى صبرا لا يعلمه إلا الله فلن يضره سب بعضهم على الفايسبوك ولكن الذي دفعني للكتابة هو ما استمعت إليها صباحا في إذاعة جوهرة آف آم من تعليق لفتحية حيزم عضو الهيئة المديرة للنساء الديمقراطيات حيث قالت أن قدوم وجدي غنيم هو طريقة لتهميش الرأي العام لأننا في فترة صياغة الدستور ومطالبنا هي الحرية والديمقراطية وليس إعادة النساء لبيوتهن او ختان النساء، وأعتقد ان الحل الذي تطرحه السيدة هو إغلاق جميع الجمعيات التي تريد استدعاء أي شخص أجنبي بحجة انه إلهاء للرأي العام وهذه هي الحرية التي تدعوا لها وأعتقد أيضا أنها لم تر العدد الكبير من النساء اللاتي حظرن إلى وجدي غنيم في دروسه التي قدمها ولم تسمع جيدا كلام وجدي غنيم حول ختان النساء هنا، فهي من الصم الذي لا يسمعون ومن العمي الذي لا يبصرون وحتى وان سمعت أو أبصرت فهي ممن يحرفون ويكذبون ومن الجيد أنها ممن ينطقون فلتحافظ على هذه النعمة إلى حين. وطبعا أكدت السيدة ان ما يدعو إليه الشيخ هو عادات إفريقية لا تمت بصلة لعاداتنا ووالله ووددت أن قالت هذا الكلام للطالبي الذي لا يرى مانعا في خروج المواطنين دون ملابس كالأفارقة، طبعا لن تقول له هذا الكلام فهم صف واحد ضد الإسلاميين الذي احترفوا الطعن في بعضهم البعض كلما جدت واقعة. ثم علق المذيع بعد ذلك بأن "الأصوات بدأت تعلو وتنادي بهذه النظرة" يقصد نظرة السيدة فتحية التي قالت أن السلفيين هم الجناح العسكري لحركة النهضة وكلما حدثت واقعة مهمة في بلادنا أخرجوا لنا مشاكل جانبية وأخرجوا لنا منقباتهم وأحضروا لنا مشائخهم فزعمت أن هذه الزوبعة هي إلهاء للرأي العام عن مطالبه الأساسية، تجدر الإشارة إلى أن جميع من في البلاتو هم من أصحاب النظرة العدائية للشيخ وجدي غنيم والإسلاميين ككل بمن في ذلك المذيع وأيضا السيد المحترم جوهر بن مبارك الذي قال "آن الاوان لإيقاف هؤلاء" .. باهي اعمل مجهودك.
على الإسلاميين أن يحسنوا إدارة إختلافاتهم بينهم وأن يستمعوا لخطب وجدي غنيم أو غيره من الشيوخ ويطبقوها فلا قيمة لعلم دون عمل به ولا قيمة لدروس وجدي غنيم إذا لم تجسدوها في أعمالكم ولا قيمة لكلامه حول الوحدة وفقه الخلاف إذا لم تكن قيما تتبنوها وكذلك على الشيخ عبد الفتاح وأنصاره أن يعلموا أن السلطة الرابعة تعمل لهدف واحد وهو تفكيك الصف الإسلامي من الداخل وإحداث شرخ عظيم فيه يصعب رتقه فهم يستخدمون حصان طروادة للدخول للصف الإسلامي وزعزعته وستبقى هذه المشاكل متواصلة إلى أجل غير مسمى إذا بقيت السلطة الإعلامية عند خصوم الإسلاميين فقط وإذا بقي بعض العوام يحسبون كل صيحة عليهم ويهرعون إلى إشهار سيوفهم الفايسبوكية في وجه كل من تسول له نفسه مخالفتهم من الإسلاميين. قلت من قبل وأكرر "تجد إسلاميا يحترم فلان اليساري الذي لم يناصر المخلوع ولم ينخرط في مشروعه الإستبدادي، رغم الإختلاف الجذري معه في الأفكار، رغم أن هذا اليساري جعل الإسلام دينا مبتورا، نصّر وهودّ الإسلام حتى جعله دين رهبانية بل دينا أجوف، اختلاف جذري شامل على جميع المستويات ولا يخفى ذلك على أحد ولكن رغم كل هذا فهو يحترمه لأنه صاحب "مبادئ" ولم يناصر المخلوع .. فقط لأنه إلتزم الصمت .. أما ذلك الإسلامي الذي عذّب وقهر وتكلم وجاهد وسجن ونفي وبذل في سبيل مبادئه ما لا يعلمه إلا الله عز وجل فهو لا يحترمه ويرميه بالإنحلال (أو التعصب) لمجرد الاختلاف معه في جزئية بسيطة ان قارناها بالمثال الأول فهي لا تعدوا أن تكون نقطة في بحر. تعسا لمن كان لا يفقه فقه الخلاف مع اخوانه."
  

vendredi 13 janvier 2012

ذكريات من وحي الثورة


كان الباب موصدا بإحكام في وجوهنا وما من سبيل لا لفتحه ولا لتحطيم السلاسل والأقفال التي جعلت منه جبلا راسيا أمامنا، ربما هذه الكلمات تلخص ما كان يشعر به الشعب التونسي في مثل هذا اليوم من العام الفارط. 
عدم وضوح الرؤية وقلة الحيلة وانقطاع الأمل وانعدامه لم يكن ذلك من فراغ فعلاوة على ذلك الباب الذي ألجم أعيننا كنا نعلم أن من وراءه عراقيل كثيرة ووراءه مباشرة يقف الجلاد.
لا تحسب أن الجلاد كان يخيف هذا الشعب فقد تمرسنا على الجلد حتى صارت السياط لا تؤثر على جلودنا التي ملأتها القروح والجروح وألقت بآلامها الممتدة على عقود على مستقبلنا الذي لم نكن نرى فيه إلا سوادا تتخلله حمرة، سواد قاتم ورثناه من مخيلة كادت أن تتعود على الظلم والجور ولم تكن ترى في العدل إلا سرابا في صحراء ما ان تقترب منها حتى تعلوك السياط من كل حدب وصوب فيرتد إليك البصر خاسئا وهو حسير وتتلاشى أحلام اليقظة معلنة على تجديد البيعة لزمن الذل والمهانة. كان لون السواد هو الطاغي في لوحة زيتية رسمها جلاد على مرور سنوات، لم تكن أداة الرسم ريشة بل كانت معداته عبارة عن سكاكين وقيود وأغلال وأشياء اخرى لم نعرف اسمها ولكنا نعرف وقعها على ظهورنا، لا تتعجب إذا كان رسامنا لا يعرف الريش وسيزول عجبك إذا علمت أنه يمسح ادوات رسمه بدموع النساء والأطفال والعجزة بل حتى أولئك الذين كان يطلق عليهم صناديد الرجال، لوحة بائسة بأتم معنى الكلمة كادت أنفاسنا أن تحبس ونحن ننظر إليها في اليوم أربعا وعشرين مرة على عدد ساعات يومنا ويكب على وجهه من تجرأ على عدم التسبيح بحمد جلاده بعدد دقائقه.
أولم يأتيك خبر تلك الحمرة التي في لوحة جلادنا ؟ هذه اللوحة التعيسة كانت منفّرة حتى بدأ يغزو هذا السواد لون أحمر تراكم بمرور أيام السجون ومرور أيام القهر والعدوان وكانت تزداد هذه الصورة بطعم الحسرة والندامة على ما فرطنا في جناحي الحرية كلما تراءت لك دموع أم تبكي حظها العاثر في دولة سموها زورا وبهتانا دولة القانون والمؤسسات، ولما اشتدت بقاع الحمرة وطغت أقسم الشعب على ألا يتراجع خطوة للوراء رغم عدم وضوح الرؤية وقسوة الطريق وضيقه وكثرة منعرجاته الملتوية إلا أن هذا كله لم يكن الأسوء بل إن الأسوء من ذلك كان بعض المترددين من بيننا ممن كانوا يرتضون نصف ثورة، ونصف طريق، ونصف مكاسب، ولتكن نصف إصلاح، وأحمد الله بكرة وعشيا أن يوم الرابع عشر من جانفي كان يوما قاسم الضهر لهؤلاء وكان الكثير منا ثائرين بحق، هنا ينبغي أن تكون كلماتي موزونة لأذكر أصحاب "دخلتوا البلاد في حيط" أنهم جعلوا يوم الثالث عشر من جانفي يوما تعيسا بليله ونهاره خاصة بعد خطاب ابن علي وكأنهم كانوا ينتظرون باب قفصهم الذي فتحه ابن علي بخطابه ليخرجوا علينا كالجرذان ويلوثوا آذاننا بتمجيد رئيسهم ووثوقه في وعودهم وينبغي أن يستحوا من أنفسهم إذ باعوا دماء الشهداء بفتح موقعين على الانترنت ووعد بعدم الترشح وأقسم أننا لو اتبعنا سبيلهم لكنا الآن في أسفل السافلين في سجون الطاغية. ليلة لم تكن كالليالي وكدت حينها أن أندب سذاجة الشعب التونسي وقصر نظره حتى أن نيته الصافية خولت له أن يفكر في أن يثق في هتلرنا ولا أظنها نية ولكنني أظنه غباء مفرط وإلى الآن لا ندري ان كان أولئك المذبذبين بين الثورة والمناشدة أقلية أم أكثرية فبعد الثورة تتوالد الحرباء بسرعة في بلادنا ولكن الذي نجزم به أن الكثير من هؤلاء يقولون عنهم "نخبة"، تلك النخبة التي كانت تهلل للنظام ومنهم سياسيون اتقنوا سياسة الاستحمار، فتبا لهم وسحقا لهم. كلما أفترض أن ابن علي جاثم اليوم على صدورنا لم يفتني أن أعلن غبائهم بل إنني احاول قدر الإمكان عدم تذكر تلك اللحظات من العام الفارط بعد خطاب المخلوع فقد كانت شرارات من الغضب العارم تتطاير وأنا أرى أحدهم يبايع جلاده على سنوات أخرى من الجلد ومثلها كانت جميع الصفات التي تليق بأمثال هؤلاء ممن استحقوا لقب خونة باستحقاق، غفروا لجلادنا بدقيقتين خطاب ؟ لعنة الله على الأوباش، تخونني اللغة العربية الآن إذ أنني أردت أن أصف لحظات لا أريد استحظارها أبدا فقد كنت أعتقد أني سأحاول وصف ذلك اليوم في هذا المقال بأكثر دقة لكنني أحسب أن ما أحسه يحسه من عاش تلك اللحظات بقلب ثائر لا بقلب نصف ثائر.


vendredi 6 janvier 2012

حزب التحرير والبداية من النهاية

في البداية ينبغي أن أقول أنني لم أشأ أن أطرح هذا الموضوع لأنني حسبت، وليتني لم أحسب، أن أبناء المشروع الإسلامي يعملون لمشروع واحد نحو تحكيم الشريعة الإسلامية التي بها أعزّنا الله، ولكن تبيّن أنهم يعملون لمشاريع مختلفة وهدفهم قبل كل شيء تشويه أقرب الناس إليهم فكريا، ادرك تمام الإدراك أن هذا من الغباء الشديد أن تشهر سيوفك وتقيم الحروب الطاحنة التي ما لها من آخر على أقرب الناس إليك فكريا خاصة أن الغاية لا وجود لها، تحويل فرد من خدمة المشروع الإسلامي إلى .. خدمة المشروع الإسلامي ! أدرك تماما ان هذه السيئة كانت فينا من القديم ولا تزال إلى أن يشاء الله لها ذلك فالبارحة كان الخوارج يشهرون سيوفهم على الإمام علي رضي الله عنه ويحاربونه رغم أنه أقرب إليهم من معاوية وكانوا في صفه قبل أيام معدودة فانقلبوا عليه وقاتلوا أقرب الناس إليهم فذهبت جهودهم أدراج الرياح وهو الخطأ الذي وقع فيه الشيوعيون أيضا حين انقلبت مذاهبها تتطاحن في ما بينها وهذا حالنا منذ قرون. أؤمن أن أبناء المشروع الإسلامي يعملون لغاية واحدة، نظريا، أما عمليا فهم مختلفون بل متناحرون وسيبقون كذلك بسبب غباء البعض، يعجبني قول الإمام الطاهر بن عاشور في هذه المسألة فهو يلخص القضية بكلمات موجزة : (( لو قصر الخلاف على ما بين العلماء لكان أمر  التفريق يسيرا، ولكن حف به من الحمية والتعصب ما بعث كل طائفة على الانتصار بجماعة من العامة يلقونهم سطحيا مذاهب المخالفين، فتتخيلها العامة إلحادا في الدين، فانشقت الأمة تفاريق العصا )) (1). لذلك لا تتعجب إذا رأيت المغتربين تمكنوا عقودا من الزمن في بلادنا فخلالها كان الإسلاميون إذا ما بدأ أحدهم يضع اللبنات الأولى من مشروعهم قامت طائفة منهم تهدم هذه اللبنات وحسبت بهدمها ذلك أنها نصرت الحق نصرا مؤزرا حتى إذا تمكن غيرهم منهم عادوا يتابكون على ما فرطوا، ألم أقل أن هذا هو الغباء بعينه ؟ عادي، فقد عرف شبابنا بالهدم فقط.

السبب الرئيسي في هذا التشتت أن كل طائفة حسبت أن معها الحق المطلق وأنها تمثل دين الله في الأرض وهي مساوية للإسلام وغيرها مخالف للمنهج القويم وعلى ضلال مبين ونظر إلى المشهد الذي يراه من جانب واحد بينما نظر غيره من جانب آخر مختلف فحسب كل منهما أنهما أدركا الحقيقة في حين أن لكل واحد منهما جزء منها. هذه إشكالية حزب التحرير الرئيسية وماذا تنتظر من حزب يقول واصفا نفسه أنه : (( كان جديرا بأن تحتضنه الأمة، وأن تسير معه بل إنه واجـــب عليها أن تحتضنه وأن تسير معه لأنه الحزب الوحيــــد الهاضم لفكرته، المبصر لطريقه، الفاهم لقضيته، الملتزم بترسم سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم دون حيد عنها )) (2) إذا واجب على الأمة أن تسير معه لانه الحزب الوحيد الذي يسير على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وما دونه فهو باطل لذلك لا تتعجب مثلا إذا قالوا أن "الإسلام يرى" أو "رأي الإسلام" في كذا عوض أن ينسبوا الرأي لأنفسهم (3). هذا ما يصنع مجموعة من الأشخاص كالقوالب التي ترى أنها الإسلام، غير مهم، تلك نظرتهم لأنفسهم، أما أن يقولوا أن أمة إذا أجمعت على ما يخالف الإسلام (( فلا يكون لإجماعها أي قيمة لأنه يتناقض مع أحكام الإسلام، فإن أصرت على ذلك تقاتل.)) (4) وحتى تتبين خطر هذه المقولة اضرب لك مثالا، هم يرون أن _ عفوا _ الإسلام يرى أن الديمقراطية باطل وأصر البعض على الرأي المخالف فإنهم، يقاتلون ! لا تحسب أن الإسلاميين الذين قبلوا بالديمقراطية حقهم مكفول في الدولة التي يسعى إليها حزب التحرير إنما ستقوم هذه الدولة على رقابهم وأشلائهم قبل كل شيء، إنها الثيوقراطية تتجلى يا مولاي. وأي ثيوقراطية أكبر من ثيوقراطية تجعل الخليفة (( غير محدد بمدة، بل هو محدد بتطبيق الإسلام )) (5) فلا مانع ان بقي الخليفة مدى الحياة، وهذا الخليفة (( هو الذي يباشر الحكم بنفسه ومن معه يكونون معاونين له يستعين بهم، ولا توجد لهم صلاحيات الوزراء في النظام الديمقراطي الجمهوري.)) (6) وطبعا هذا الخليفة الذي له كل هذه الصلاحيات سيحكم أرض المسلمين من مشرقها لمغربها وله كل هذه الصلاحيات لأن دولة الخلافة لا يجوز أن تكون اتحاد دول ولا يكون للمسلمين خليفتين إنما ينبغي أن يكون خليفة واحد، كما أن له، اطال الله عمره، (( وحده حق تبني الاحكام الشرعية فهو الذي يسن الدستور وسائر القوانين )) (7)، الطريق نحو الديكتاتورية وإعادة أخطاء الماضي مفتوح على مصراعيه أيها الخليفة فتفضل.

الإشكالية أن حزب التحرير يعتقد أن إقامة الخلافة سيجدها محفوفة بالورود وكلها عطر وفي اللحظة التي سيتسلم فيها الحكم في دولة ما ستستسلم له بقية الدول عن بكرة أبيها وتدعوا خليفتنا الموقر ليحكمها على جناح السرعة لذلك يعتقد أن له دولة قوية وعتيدة وعلى كلمة واحدة وألا وجود إلا للتحريريين القابلين بهذه الدولة لذلك فمن أولياته مثلا، (( إذا لم يقم بأداء الصلاة أو الصيام مثلا يعاقب وإذا سكر يعاقب وإذا زنا يعاقب وإذا خرجت المرأة عارية أو متبرجة تعاقب. )) (8) وهكذا يسير حزب التحرير على نفس طريق حركة طالبان ولم يبقى الاختلاف بينهم إلا قانونين اثنين وهما فرض اللحية ومنع المعازف في البلاد، هذه الطوبية التي يتبناها حزب التحرير ستؤدي به إلى نفس المصير الذي حدث لابن علي ولكن هذه المرة في أقل من ثلاثة وعشرون سنة بل في يومين اثنين.

ولم يفت حزب التحرير أيضا أن يعلن الجهاد من اليوم الأول على "الكفار"، فتراه يقول (( يهدف _ الحزب _ إلى هداية البشرية، وإلى قيادة الأمة للصراع مع الكفر وأنظمته وأفكاره، حتى يعم الإسلام الأرض. )) (9) ولذلك فإن (( الجهاد فرض كفاية ابتداء، وفرض عين ان هجم العدو، ومعنى كون الجهاد فرض كفاية ابتداء هو أن نبدأ العدو بالقتال وإن لم يبدأنا. )) (10) فـ((ـالدول وإن وكان بيننا وبينها معاهدات، إلا أنها تعتبر دولا محاربة حكما وذلك لأن كونهم كفارا لم يخضعوا لسلطان الإسلام فإنهم يعتبرون محاربين.)) (11) لذلك فإن مقاطعة جميع الدول الكافرة واجبة علينا (( ولا يجوز لدولة الخلافة أن تعقد اتفقايات عسكرية مع غيرها من الدول كإتفاقيات الدفاع المشترك والأمن المتبادل. وما يلحق لذلك من التسهيلات العسكرية، وأن تأجير القواعد، أو المطارات أو الموانئ، كما لا تجوز الاستعانة بالدول الكافرة ولا بجيوشها. ولا أخذ القروض أو مساعدات من هذه الدول.)) (12) طبعا بما اننا في تقدم علمي كبير والغرب الكافر يحتاجنا كثيرا ولدينا دولة عظيمة _ تونس _ لم تمر بها أي ازمة ويحتاجنا كل العالم فلا خوف علينا ! ولا بأس أيضا أن تكون الدول المحاربة والتي ساهمت في الحروب ضدنا على رأس قائمتنا حتى نقصفها بأسلحتنا المتطورة فـ((تطبق عليها أحكام الحرب الفعلية ما دامت حالة الحرب هذه قائمة بيننا وبينهم)) (13) واذكر مرة أخرى أن هذا القانون سيكون ساري المفعول في أي دولة قامت فيها دولة الخلافة ولو كانت "تجيبوتي" التي تعيش على المساعدات الخارجية.
طبعا هذه النظرة متأتية من التسرع وعدم الإيمان بالتدرج وعدم التحليل الدقيق لوضع المجتمع وفي مواضع أخرى بداية مشروعهم من آخره وعدم الانطلاق من الواقع فالجملة التي يرددها التحريريون "لا تجعل الواقع يغيرك وكن أنت مغير الواقع" جعلهم ينفصلون تماما من الواقع لينطلقوا في تنزيل الاحكام الطوبية على الواقع تنزيلا أعرجا وهم معصوبي العينين .. أن تجعل المشروع الإسلامي قالبا تنزله على واقع، أي واقع، بطريقة واحدة، فهذا عين الخطأ وما هكذا تؤكل الكتف. 
وسأتابع وجهة نظري في مقالات أخرى ان شاء الله.


(1) كتاب أليس الصبح بقريب للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ص207
بقية الاقتباسات من كتاب "حزب التحرير" طبعة دار الأمة الصفحات على التوالي : 22/23-63-65-76-77-82-63-24-115-118-124