samedi 29 mars 2014

08- في منهجية فهم النصوص الشرعية : فقه الموازنات، فقه الأولويات وجدلية العقل والنقل

في نقد السلفية وضرورة التجاوز

08- في منهجية فهم النصوص الشرعية
فقه الموازنات، فقه الأولويات وجدلية العقل والنقل


في فقه الموازنات وفقه الأولويات :

قد علمت مما سبق أهمية الإحاطة بكل من علم الأصول وعلم المقاصد وكذلك ما للمصالح والمفاسد وإدراكهما من أهمية في نظر الفقيه. وهذا الباب متصل بما وقفنا عنده في المقال السابق ومرتبط به.

نقصد بفقه الموازنات إدراك الفرق بين فعلين، أو تعريف ذات الفعل تعريفا صحيحا إن كان مصلحة أو مفسدة، وقد مر علينا من كلام الإمام علال الفاسي رحمه الله أن ما غلبت المصلحة فيه ألحق بالمصالح وما تساوت فيه المفسدة والمصلحة أو غلبت الأولى ألحق بعداد المفاسد. ففقه الموازنات هو إدراك الفرق بين الأمر العظيم والأمر الهين، والتفريق بين المهم والأهم، والفصل بين السيئ والأسوء وإعطاء كل فعل درجته السليمة، فلا يكبر الصغير ويعلو، ولا يصغر الكبير ويحتقر. يقول الإمام يوسف القرضاوي في فقه الموازنات بأن مداره حول "الموازنة بين المصالح بعضها وبعض، من حيث حجمها وسعتها، ومن حيث عمقها وتأثيرها، ومن حيث بقاؤها ودوامها" وهو كذلك "الموازنة بين المفاسد بعضها وبعض، من تلك الحيثيات التي ذكرناها في شأن المصالح" وهو أيضا "الموازنة بين المصالح والمفاسد، إذا تعارضتا". (1)

أما فقه الأولويات فهو الدرجة الثانية التي تلي فقه الموازنات، فلتحقيقه ينبغي إدراك الدرجة الأولى أولا وتحصيلها من حيث أنها معرفة الأفعال في حد ذاتها وإدراك كنهها، وكذلك معرفة الواقع والإلمام به لمعرفة أي الأفعال أولى وأيها تستحق التقديم ولا تحتمل التأخير وأيها السابق وأيها اللاحق، فرب فعل ذا بال ينبغي أن يؤخر ورب صغير لا يقوم الكبير إلا به. ولا أجد أفضل من قاعدة "ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب" للتعبير عن جانب مما يعنيه فقه الأولويات. فإنك تجد أن الطهارة شرط لصحة الصلاة ففي فقه الأولويات هذه الوسيلة ينبغي أن تسبق غايتها. وكذلك فإن الجهاد قد يكون مرادا في حد ذاته وإعداد العدة وسيلة له فتقاس على ما سبق فيقدم الثاني لأنه شرط تحقيق الأول رغم أنه ليس مرادا لذاته. وإن حمل طفل أمر ليس ذا بال مقارنة بالصلاة إذا ما وازنّا كنه الأفعال مجردة، فترجح الكفة للصلاة، إلا أنه يكون حمله ذا أهمية أكثر وأولى إذا ما كان الواقع ينبئنا بخطر تجاه الطفل كسقوط أو غيره، ففقه الأولويات يضيف إلى كفة ذلك الفعل المجرد معطى واقعيا فترجح تلك الكفة. ولعلي شريعتي قول مشهور في هذا الصدد إذ يقول "عندما يشب حريق في بيتك، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع الى الله، ينبغي عليك ان تعلم أنها دعوة خائن، فكيف الى عمل آخر؟ فالإهتمام بغير إطفاء الحريق، والإنصراف عنه الى عمل آخر، ما هو إلا إستحمار". (2) ويتبين لك مما سبق وجاهة فعل الصحابي أبا برزة الذي قطع صلاته لإدراك فرسه ورجاحة رأيه على رأي من لامه وعذله.

وإذا شئت قلت أن فقه الموازنات وفقه الأولويات إذا جمعناهما يكوّنان الفقه الذي يحدد حالات العمل بقاعدة (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة) وقاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، ولولاهما تكون القاعدتين بين يدي أصحاب الأهواء بصنفيهما : إما جناح التشدد ممن لا يؤمنون إلا بالقاعدة الأولى ولا يعملون إلا بها، أو أصحاب الرخص ممن لا يرون إلا القاعدة الثانية ولا تدور اجتهاداتهم إلا حولها. فإذا حضر فقه الموازنات وأتبعَ بفقه الأولويات اهتدينا إلى التوفيق في اختيار القاعدة المناسبة لحالتها المناسبة. ولولا ذلك لوجدنا قوما اعتزلوا الناس ولم يسعوا لمصلحة بل لم يبرحوا دورهم زاعمين أن درء مفاسد خروجهم للمجتمع مقدم على تحقيق أي مصلحة وكلما حدثتهم عن الضرورات والأولويات وفقه الواقع والنظر إلى المآلات رموا إليك قاعدتهم التي أخذوها بإطلاق. وآخرون على طرف النقيض، نفعيين براغماتيين اتخذوا المصلحة بوصلة داروا حيث دارت واتجهت دون ضابط، فصارت هي غايتهم بعد أن كان غايتهم الشرع، وكلما حدثتهم عن غاية الشرع وأن الأخذ بالرخص ينبغي أن يكون بضوابط مدروسة ولا يطلق على عواهنه وأن الأخذ بالعزيمة له شأن وبال وإلا أصبحنا فريسة للاستسلام والمهانة رموا إليك قاعدتهم المعلومة وحدثوك عن الضرورات. وعند التدقيق تجد الفريقين سيان في النظر فكل واحد فيهم أطلق قاعدته بشكل فاحش وغير مضبوط ولا مدروس.

وهذا الفقه ينبغي ان يؤخذ بكليته لا بجزء منه دون جزء، ويطبق في جميع المجالات التي يشملها لا أن يطبق في مواضع دون أخرى فيؤخذ به في ما يتعلق بالفقه والمعاملات اليومية والفردية، ويلفظ إذا ما تعلق الأمر بالسياسة الشرعية وبناء المجتمع وتشييد الدول. كما أن فقه الأولويات يمتد ليشمل أولوية الكم على الكيف، وأولوية العلم على العمل، وأولوية الفهم على مجرد الحفظ، وأولوية المقاصد على الظواهر، وأولوية الاجتهاد على التقليد، وأولوية التخصصات بالنسبة للأفراد فالمبدع في العلوم الإنسانية وجب عليه الاشتغال عليها والتوغل فيها أكثر والغني وجب عليه تقديم تشييد المصانع والجامعات وتحصيل وإنفاق ماله في ما ينفع الأمة فيقدم هذا على الاشتغال بالعبادات البدنية، وغير ذلك من الأولويات فهو باب واسع عظيم، وكل ذلك إنما يتفرع عما تعرضنا إليه من قضية المصالح والمفاسد. (3)  فكما أن الشرع والعقل والفطرة السليمة تدلنا على ضرورة تحصيل المصلحة الأكبر على حساب المصلحة الأصغر، فإنه يدلنا أيضا على إصابة المفسدة الأدنى على حساب المفسدة الأكبر إذا لم يكن مفر منهما، مع إيماننا الجازم أننا في مفسدة لا يتغير وصفها فتزين ونلبسها لبوسا محرفا لحقيقتها، وكذا الموازنة في الفعل ومآلاته واتحاذ الأحكام بعد دراسته دراسة وافية من جميع جوانبه ثم الموازنة وتفعيل فقه الأولويات.

يقول الإمام يوسف القرضاوي : "إن المصالح إذا تعارضت فوَتت المصلحة الدنيا في سبيل المصلحة العليا، وضحي بالمصلحة الخاصة من أجل المصلحة العامة، ويعوض صاحب المصلحة الخاصة عما ضاع من مصالحه، أو ما نزل به من ضرر وألغيت المصلحة الطارئة لتحصيل المصلحة الدائمة أو الطويلة المدى، وأهملت المصلحة الشكلية لتحقيق المصلحة الجوهرية، وغلبت المصلحة المتيقنة على المظنونة والموهومة ... وإذا تعارضت المفاسد والمضار ولم يكن بد من بعضها، فمن المقرر أن يرتكب أخف المفسدتين، وأهون الضررين. هكذا قرر الفقهاء : أن الضرر يزال بقدر الإمكان، وأن الضرر لا يزال بضرر مثله أو أكبر منه، وأنه يتحمل الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام. ولهذا أمثلة وتطبيقات كثيرة ذكرتها كتب (القواعد الفقهية) أو (الأشباه والنظائر). وإذا تعارضت المصالح والمفاسد، أو المنافع والمضار، فالمقرر أن ينظر إلى حجم كل من المصلحة والمفسدة، وأثرها ومداه، فتغتفر المفسدة اليسيرة لجلب المصلحة الكبيرة. وتغتفر المفسدة المؤقتة لجلب المصلحة الدائمة والطويلة المدى. وتقبل المفسدة وإن كبرت إذا كانت إزالتها تؤدي إلى ما هو أكبر منها. وفي الحالات المعتادة : يقدم درء المفسدة على جلب المصلحة. وليس المهم أن نسلم بهذا الفقه نظرياً، بل المهم كل المهم أن نمارسه عمليا. فكثير من مسببات الخلاف بين الفصائل العاملة للإسلام، يرجع إلى هذه الموازنات." (4)

وقال الإمام عبد الرحمن بن صالح العبد اللطيف في كتابه القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير :
 (إن مدار الشريعة على جلب المصالح ودفع المفاسد، وعلى أن الأصل في كل مصلحة تحقيقها وإيجادها، وأن الأصل في كل مفسدة دفعها ومنع حصولها.
 فإذا تزاحمت مصلحتان بحيث لم يمكن تحصيلهما معا نُظر في ذلك إلى أعلى المصلحتين بتحصيلها، وإن ترتب عليه إهدار المصلحة الأخرى التي هي دونها.
 وإذا تزاحمت مفسدتان بحيث لم يمكن دفعهما معًا نظر في ذلك، إلى أعلى المفسدتين بدفعها وإن ترتب عليه ارتكاب المفسدة الأخرى التي هي دونها.) (5)

في العلوم الإنسانية :

إن العقل الإسلامي عامة، والعقل السلفي خاصة، يجعل هذه العلوم في مراتب دنيا، بل ربما نظر إليها باحتقار وازرداء يصل في كثير من الأحيان إلى حدود تحريمها. فقد تجعل العلوم القانونية والسياسية من قبيل العلوم الوضعية المخالفة للكتاب والسنة المحرمة، وقد تحرم أيضا العلوم الاجتماعية والفلسفة والإقتصاد ودراسة المجتمعات الأخرى أو تجعل في أفضل الأحوال من قبيل العلم الذي لا يضر ولا ينفع ولا يكترث به. وما ذاك إلا لقصور في العقل الإسلامي ككل عن أهمية هذه العلوم، ولو علموا ما لهذه العلوم من تأثير في اختيار الفقيه وموازنته بين الأحكام لأقبلوا عليها ودرسوها. وإن هذه العلّة تظهر لك بصورة أوضح وأعمق في العقل السلفي، مع عدم تبرئة العقل الإسلامي ككل من إصابته بهذه العلة على تفاوت وربما لإعتبارات أخرى غير التي ذكرت.

إنك تجد الفقيه لا يعزم على فتواه إذا ما تعلق الحكم بمريض إلا إذا رجع لرأي طبيب دارس عارف بحال مريضه. وإن سألته عن سبب ذلك روى لك حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أنّ رجلاً أصابه جرح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُمِر بالإغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العيّ السؤال !" (6) في حين تجد كثيرا من الفقهاء يبنون الأحكام ويقطعون فيها ويغلفونها بأغلظ الإيمان إذا ما تعلق الأمر بالإقتصاد أو بحال المجتمع أو بالسياسة الشرعية أو بالموازنات الإقليمية دون أن يعود بالنظر إلى رأي خبير في المجال، ولا يخشى بفتواه تلك أن يصيب أمة بجهل منه فيقتلها أو يرديها في مرض شديد. فأيهما أولى بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم "قتلوه قاتلهم الله" ؟ من قتل فردا أو من قتل أمة ؟ !  

وليس هذا الباب منفصلا عما سبق، فإننا كنا بصدد عرض الموازنات والأولويات، وإن دراسة الواقع واستنباط الأحكام بما عرضنا من علوم حسبه يحتاج إلى نظرة علمية دقيقة في المجال الذي نخوض فيه. ذلك أن الحكم على الشيء فرع من تصوره فإن كان التصوّر مشوها كان الحكم كذلك.

والحق أن الإسلاميين مطالبون بإعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية وإنزالها منزلتها العظيمة والمهمة وإلا تفرعت أكثر اختلافاتهم وتشتت كلمتهم ولم يثبتوا على حال. فإن هذه العلوم مع ما لها من شأن كما ذكرت في استنباط الأحكام فإن لها شأن أيضا في تحديد الخلاف أو في تقليصه، فكلما استندنا عليها في ما عرض لنا من وقائع علمنا المصلحة من المفسدة وفرقنا بين المصلحة المتوهمة من المصلحة المرتقبة وكذا بالنسبة للمفسدة. فكان حكمنا مبني على دراسات علمية لا مجرد أوهام أو أهواء، وبهذا نتجنب غلو الفرقتين اللتان تعرضنا لغلوهما في القاعدتين في ما سبق. فتكون بهذا أحكامنا أقرب إلى اليقين وأبعد على الظنون.

ولا غرو أن يكون حال هذه العلوم على هذه الدرجة من المهانة إذا ما اختل فقه الأولويات عندنا، فترى كثيرا مشتغلا بما لا ينفع على حساب هذه العلوم، أو يغوص في دقائق المسائل ومستعصيات الإشكاليات الفقهية وربما حيلها في حين أنه يجهل أبسط قواعد العلوم الإنسانية. أو تجد من يتصدق لبناء مسجد ويعد ذلك من القربات العظيمة، وهي كذلك، ويغفل أن بناء الجامعات أو المصانع أو مراكز البحث أيضا من أشد القربات إلى الله. ولك أن تقارن بين من جعلوا جزء من أموالهم في نفقة المساجد وتزيينها وزخرفتها أو من أنفقوا أموالهم في العبادات كالحج المتكرر والنوافل وما إلى ذلك، وبين من جعلوه في مراكز الأبحاث والجامعات والبحوث العلمية أو حتى الإنفاق على طلبة العلوم ! وتجد كذلك أننا نعتقد ضرورة تعلم علوم الشرع وإتقانها، وهي ضرورية وأغلبها فرض كفاية، ونغفل أن العلوم الإنسانية جلّها أيضا : فرض كفاية !  

وما أجمل ما يقوله الإمام يوسف القرضاوي واصفا هذه الإشكالية : "هذا الخلل الكبير الذي أصاب أمتنا اليوم في معايير أولوياتها، حتى أصبحت تصغر الكبير، وتكبر الصغير، وتعظم الهين، وتهون الخطير، وتؤخر الأول، وتقدم الأخير، وتهمل الفرض وتحرص على النفل، وتكترث للصغائر، وتستهين بالكبائر، وتعترك من أجل المختلف فيه، وتصمت على تضييع المتفق عليه .. كل هذا يجعل الأمة في أشد الحاجة، بل في أشد الضرورة، إلى فقه "الأولويات"، لتبدئ فيه وتعيد، وتناقش وتحاور، وتستوضح وتبين، حتى يقتنع عقلها، ويطمئن قلبها وتستضيء بصيرتها، وتتجه إرادتها بعد ذلك إلى عمل الخير وخير العمل." (7)



علماء الأمة : فقههم بالأولويات وإحاطتهم بالواقع

ومن قبسات العلماء في عملهم بفقه الأولويات في العصر الحديث تجربة الإمام محمد بن عبد الوهاب فقد كانت الأولوية الكبرى عنده تصفية العقيدة مما شابها من الخرافات والبدع والشركيات فنقّاها واشتغل بها عن غيرها وعمل من أجلها وكرس وقته لذلك. وكانت أولوية الإمام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده أن اشتغلا بإيقاظ الأمة من غفلتها وتجديد الفكر الديني والنهوض بهمة العلماء من أجل ذلك ونشر مطلب التحرر والوحدة في أبناء الأمة والعمل على إصلاح المنظومة التعليمية. وكانت من أولوية الإمام حسن البنا إقامة جيل رباني يأخذ الإسلام بشموليته وبأبعاده جميعها لإحياء الخلافة ويؤسس للعقلية التنظيمية في العمل الإسلامي ويصحح مفاهيم قد انحرفت ويحارب فكرة أن الدين عقيدة بلا شريعة ودينا بلا دولة وحقا بلا قوة وسلاما بلا جهاد، فبث في الناس أن الإسلام عقيدة وشريعة، ودينا ودولة، وحقا وقوة، وسلاما وجهادا، ومصحفا وسيفا، أي أنه بث فيهم شمولية الإسلام. وكانت أولوية الإمام المودودي والسيد قطب رحمهما الله أن يردا الفكر المتغرب بالحجة والبرهان ويبنيا جيلا مقبلا على حاكمية المولى متجذرا في الفكر  الإسلامي فيزرعان فيه الافتخار بالعقيدة الإسلامية وأحكامها وازدراء الجاهلية الحديثة وآفاتها. (8) وكذا كان مشايخ الزيتونة في تونس ونذكر منهم الشيخ محمد قابادو ورائد الإصلاح الديني الشيخ سالم بوحاجب وتلميذه الشيخ محمد النخلي والشيخ محمد السنوسي والشيخ محمد المكي بن عزوز والزعيم الشيخ عبد العزيز الثعالبي والشيخ الإمام الطاهر بن عاشور ونجله الشيخ الفاضل بن عاشور، وغيرهم، عليهم رحمة الله جميعا. فإن كل اسم من هذه الأسماء مدرسة تستحق تجربته الدراسة وإيلاءها الإهتمام اللازم.  ولئن كانت لهم اهتمامات مست مختلف المجالات وتطرقت لمسائل عديدة إلا أن الجهود تكاملت وتضافرت. فقد كثرت النقائص التي اعترضتهم فأوجب عليهم واقعهم العمل لأمور شتى لسدها وملئها فكلها من قبيل الأولويات التي هي أسّ البناء. فارتأى بعضهم الاعتناء بالعلم وتطوير أساليب تحصيله ونشره فضلا عن توسيع دائرة المواد بإيراد علوم أخرى ذات أهمية أو تنقيح بعض الفصول. واهتموا كذلك بالعمل السياسي والنقابي والإجتماعي والتعريف بالقضية التونسية فكان لهؤلاء الأعلام فضل في التعريف بها مشرقا ومغربا وفي إنشاء الجمعيات العلمية والمساهمة في الحركة الفكرية في البلاد وبلورتها وتوجيهها دون أن ننسى الدور البارز في مقاومة المحتل منذ السنوات الأولى للاستعمار (9). المدرسة الصادقية، حركة النشر في البلاد التونسية (الجرائد، المجلات، الكتب ...)، الحزب الدستوري الحر، نقابة الاتحاد العام التونسي للشغل، فرع جمعية العروة الوثقى، مدرسة الخلدونية،  ... إلخ. كل هذه الهيئات والأعمال والإنجازات كانت ثمرة من ثمار مشايخ الزيتونة وكلها كانت من قبيل الأولويات عندهم مما فرضته التحديات وأوجبته الضرورة.

فقد أدرك علماء الأمة هذه المسائل وأهميتها فعالجوا إشكاليات واقعهم فتبصروا فيه ولم ينفصلوا عنه، وهذا مما ينبغي أن ينتبه إليه أبناء الصحوة الإسلامية فدراسة تجارب العلماء ينبغي ألا تكون منفصلة عن واقعهم وما عايشوه وما كابدوه. فإن استنساخ تجاربهم بحذافيرها قد يكون غير مجد في واقع له معطيات مخالفة ومغايرة، أو قد تتغير الأولويات وتنقلب المعادلات فيكون تسليط الضوء على جوانب أخرى قد تضمر وتقل سهامها في تجاربهم، تكون له أهمية عندنا وله الأولوية حسب معادلة فقه الأولويات.

في علاقة العقل بالنقل :

إن ما تعرضنا له قبل هذا الباب يندرج، أغلبه، ضمن ما وردت فيه النصوص الشرعية، فتعرضنا لكيفية تصرف الفقيه في النصوص وطرق استقراء المقاصد الشرعية وباب المصالح والمفاسد وكل من علم الموازنات والأولويات، والنسبة الأكبر من ذلك إنما هو فقه للنصوص وحسن فهمها وإنزالها في موضعها السليم، فكله مبني على تلك النصوص وبما استنبط من ذات النصوص من أصول ومقاصد وأحكام. ورغم أن ما مر علينا من منهجية في التعامل مع النصوص يقلص في الهوة التي يمكن أن تصطنع في إبعاد النقل على العقل ويضفي توازنا يصل إلى حد التطابق بينهما في أحيان كثيرة، إلا أننا نحتاج لمزيد ايضاح هذه القضية خاصة في بعض النقاط التي لم نتعرض لها.

لقد جاءت الشريعة الإسلامية منظمة لحياة الإنسان ومرتبة لها، ولكن توجيهات النصوص محدودة بينما ما يطرأ على حياة الإنسان من أحداث وقضايا مستمر التجدد والتعدد. ومن جانب آخر، فإن النصوص ليست كلها قطعية الدلالة، بل فيها ما هو قطعي وفيها ما هو ظني يحتمل وجوها من المعاني كما أن فيها ما يستجد من القضايا وليس له ذكر ولا نص يهتدى به، فكيف يقضي المسلم في ذلك وهو لا ينتظر وحيا يسدده أو خبرا من السماء يرشده ! فكانت هذه الإشكالية في الفكر الإسلامي سببا لبحث جدلية العقل والنقل وكانت الأسئلة الأساسية التي تطرقت إليها مدارس الفكر الإسلامي المتفرعة من الإشكالية هي التالية : (10)
- هل أفعال الإنسان تحمل قيمة ذاتية ثابتة أم قيمتها تضفى عليها من قبل الشارع ؟
- هل وسيلة التقييم وكشف قيمة الفعل هي الشرع وحده أم العقل وحده أم هما مشتركين، وبأي قدر يكون ذلك الإشتراك ؟
- ما هي جهة الإلزام بالفعل فعلا وتركا ؟ الشرع ؟ العقل ؟ أم هما شريكان ؟ وبأي قدر يكون الإشتراك ؟
- ما هي الجهة التي تقدر الجزاء على الفعل ثوابا وعقابا ؟ الشرع ؟ العقل ؟ أم هما شريكان ؟ وبأي قدر يكون ذلك الإشتراك ؟

فكانت هذه الأسئلة هي ما يدور عليه البحث وتتعرض إلى كبد الإشكالية، فألفت في ذلك الكتب والبحوث وأفردت لها المصنفات. وإن إفرادها بذلك ليس من قبيل الأمور الاعتباطية والإيغال في الجدل العقيم. وإنما كان من أسباب طرح هذا الموضوع تطور الحياة وظهور صور مستجدة ومستحدثة اقتضت البحث في مكانة العقل في موازنة ربط المستجدات وما استحدث من مسائل بالشرع، فكانت هذه ضرورة عملية. وكان أيضا للجانب العقدي والتفاعل مع الثقافات الأخرى شأن مهم في ذلك، لتحديد مكانة العقل في الدفاع عن العقيدة الإسلامية وضبط دوره.

وخلاصة البحث في هذا الموضوع تحيلنا إلى النقاط الذي ذكرها الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه مراجعات في الفكر الإسلامي، ملخصها أن :
- الأفعال الإنسانية تنطوي على قيمة ذاتية، وهذا ما قرره الإمام ابن تيمية وقد وافق فيه المعتزلة وهو خلاف ما قرره الأشاعرة خاصة منهم الأقدمون. وقيمة تلك الأفعال تندرج ضمن المشيئة الإلهية التي بنت الكون على الحكمة.
- الوحي هو المصدر الأول في كشف قيمة الأفعال فيميز الحسن من القبيح وما هو صالح وما هو ضار.
- العقل مناط التكليف الذي خلقه المولى للإنسان فجعله مهيئا للكشف عن قيمة الأفعال وتقديرها. وهو المعين في تدبر النصوص وفهمها والتمييز بين مراتبها في حالة ورود النص أو في القياس والاستنباط في غير ذلك.
- دور العقل في التقييم دور نسبي، ففي حال ورود الشرع بالتقييم يكون دور العقل الاستيعاب وحسن الفهم، وإن لم يرد فإن للعقل دور التقييم والتمييز والتمحيص.
- إيجاب الأفعال مما يختص به الشرع وحده، وفي حال عدم ورود النص فإن العقل يكون دوره الكشف والبحث عن الحكم الشرعي. وكذا بالنسبة لمسألة الثواب والعقاب. (11)

ففي حال عدم ورود النص، فمن المسلم به أن للعقل دور بارز سواء أكان ذلك في القياس أو في إدراك مآلات الفعل وآثاره. كما أنه من المسلم به أيضا أن في حال ورود النص الصحيح الصريح، فإنه لا يسع المؤمن إلا التصديق والإيمان بعد أن قضى الله في الفعل وكشف الشرع عن الحكم فيه. وإن الذي يهمنا في القضايا العقلية هي القضايا العقلية القطعية، لا المختلف فيها التي يؤخذ فيها ويرد، أي أن الذي يهمنا هي مثل ما يمكن إدراكه بالعقل من أن الله تعالى لا يحب الظلم، أو وجوب إرساء العدل في المجتمع، أو عدم حاجة الخالق للمخلوق، وغير ذلك مما يتفق عليه العقلاء. وإن مكمن الإشكال في غير ما ذكرنا مما يتفق عليه المسلمون، ولإدراك ذلك وجب تقسيم النصوص إلى أربعة أقسام : (12)
القسم الأول : قطعي الورود قطعي الدلالة، وهي نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة الدالة على المعنى المُسـتدل بها عليه دلالة واضحة بينة قطعية.
القسم الثاني : قطعي الورود ظني الدلالة، وهي نصوص القرآن الكريم والسنة المتواترة الدالة على المعنى المستدل بها عليه دلالة ظهرت ولاحت للمستدل ولكنها غير قطعية. 
القسم الثالث : ظني الورود قطعي الدلالة، وهي نصوص السنة التي وصلتنا بطريق آحادي ودلت على المعنى المستدل بها عليه دلالة واضحة بينة قطعية.
القسم الرابع : ظني الورود ظني الدلالة، وهي نصوص السنة التي وصلتنا بطريق آحادي ودلت على المعنى المستدل بها عليه دلالة ظهرت ولاحت للمستدل ولكنها غير قطعية 

فإن التعارض بين قضية عقلية قطعية، ونص قطعي الورود وقطعي الدلالة مما لا يتخيل ولا يقع، فكلاهما من قبل الحقائق ولا يمكن للحقائق أن تتعارض. ويمكن أن يقع التعارض بين قضية عقلية قطعية وبين نص قطعي الورود ظني الدلالة، وهنا نحمل النص على التأويل وحمله في دلالته السليمة التي لا تخالف صحيح العقل فلا نصادم به الحقائق، وذلك من قبيل ما فهم البعض من القرآن الكريم أن الأرض مبسوطة وصادم الحقائق فكذّب "المهندس والمنجم" وزعم أن عند أولي النهى الأرض مسطحة مبسوطة لا كروية ! (13) أو كما يفهم البعض من آية (وهو معكم أينما كنتم) (14) أن الله تعالى مع خلقه معية تواجد فيوافق بذلك مذهب الحلوليين، فيعارض حقيقة عقلية قطعية وهي أن الخالق لا يحل في خلقه، فوجب إذا حمل الآية على وجهها السليم. وهذا هو دور العقل المعين على فهم النصوص واستيعابها وحسن فهمها. كذلك يتوقع حصول تعارض في القسم الثالث بين قضية عقلية قطعية وبين نص ظني الورود قطعي الدلالة وهنا لا يمكن أن يقدم الحديث الضعيف والأثر الظني ويقرب على القضايا العقلية الواضحة الصريحة فإن العقل الذي دلنا على طرق المحافظة على النصوص ووصولها سليمة لتدوينها بعد ذلك هو ذاته يدلنا على إمكانية وقوع الخطأِ للرواة في عملية النقل، فلا بد إذا أن يكون للمتن والتحقق فيه جانب مهم أيضا مع التثبت من السند. وأما القسم الرابع فإن طريقة التوفيق بينه وبين القضايا العقلية القطعية تكون إما بتأويله أو بحمله على أنه خطأ من بعض الرواة. (15)

ولحجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله قول نفيس في هذا الصدد، لا أجد أحسن ولا أفضل منه لأختم به هذا الفصل، إذ يقول رحمه الله تعالى في كتابه الإقتصاد في الإعتقاد ما نصه : "[إن أهل السنة قد] تحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول وعرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد، واتباع الظواهر ما أتوا به إلا من ضعف العقول وقلة البصائر. وإن من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع، ما أتوا به إلا من خبث الضمائر. فميل أولئك إلى التفريط وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط. بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم؛ فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وأنى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر والخبر، وينكر مناهج البحث والنظر، أو لا يعلم أنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبر، وكيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر، وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر ؟ فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر ؟ أو لا يعلم ان العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر ؟ هيهات قد خاب على القطع والبتات وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات. فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والاذاء. ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء. فاخلق بأن يكون طالب الاهتداء. المستغني إذا استغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمعرض عن العقل مكتفياً بنور القرآن، مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضاً للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان. فالعقل مع الشرع نور على نور." (16)





1: كتاب أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة (فصل فقه الموازنات)
2: علي شريعتي، النباهة والاستحمار
3: وكل ما ذكرت من الأولويات فصول من كتاب الإمام يوسف القرضاوي فقه الأولويات، قد أطنب الإمام في الحديث حولها ومعالجتها، كما ذكر فصولا أخرى كثيرة ليس المجال لذكرها والتفصيل فيها
4: كتاب أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة (فصل فقه الموازنات)
5: عبد الرحمان بن صالح العبد اللطيف؛ كتاب القواعد والضوابط الفقهية المتضمنة للتيسير ص : 1: 93-94. وقد عد الإمام عبد الرحمان هذه القاعدة من القواعد الأساسية في الفقه (ص100) وذكر أن بعض العلماء قد رد أحكام الفقه كلها إلى قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد. (انظر ص100 وقد أحال أيضا إلى قواعد الاحكام 1/11 والأشباه والنظائر 1/12)
6: صحيح الإمام البخاري رحمه الله
7: ص24 كتاب من فقه الاولويات
8: انظر كتاب فقه الأولويات للإمام يوسف القرضاوي ص261 وما بعدها
9: الزعيم عبد العزيز الثعالبي مؤسس الحزب الدستوري الحر. الشيخ الفاضل بن عاشور أحد مؤسسي الاتحاد العام التونسي للشغل
10: كتاب مراجعات في الفكر الإسلامي للدكتور عبد المجيد النجار، صفحة 102
11: كتاب مراجعات في الفكر الإسلامي، فصل أحكام الدين بين العقل والنقل، صفحة 100 وما بعدها
12: كتاب عقائد الأشاعرة، الشيخ صلاح الدين الإدلبي، صفحة ...
13: أشير إلى نونية القحطاني في قوله : كذب المهندس والمنجم مثله فهما للعلم مدعيان .. الأرض عند كليهما كروية وهما بهذا القول مقترفان .. والأرض عند أولي النهى لسطيحة بدليل صادق القرآن. ولا يزال البعض يردد هذه الأبيات دون تنقيحات متبجحا بزعمه أن صادق القرآن يدل على سطحية الأرض ! كبرت كلمة تخرج من أفواههم
14: الآية .. المجادلة
15: كتاب عقائد الأشاعرة، الشيخ صلاح الدين الإدلبي، صفحة ...
16: كتاب الإقتصاد في الاعتقاد، الإمام أبو حامد الغزالي، صفحة 2 و3


samedi 22 mars 2014

07- منهجية فهم النصوص الشرعية : قراءة في مقاصد الشريعة الإسلامية

في نقد السلفية وضرورة التجاوز

07- منهجية فهم النصوص الشرعية
قراءة في كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية للإمام محمد طاهر بن عاشور رحمه الله


طريقة هذا المقال

هذا المبحث مبحث عميق لا يغوص فيه إلا من كان ذا علم غزير، ولعل قلة المصنفات التي ألفت في هذا الموضوع تحيلك على أن هذا الباب على عظمته وأهميته إلا أنه بحر شديد التلاطم يحتاج إلى فقيه متمرس لدراسته. وقد خيرت أن يكون هذا المقال عبارة عن ملخص لأهم ما ذكره إمامنا وشيخنا الطاهر بن عاشور أساسا في كتابه الممتع مقاصد الشريعة الإسلامية مع الاهتداء أيضا بكتاب الإمام علال الفاسي رحمه الله مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها.
وفي هذا المقال حاولت تلخيص المبحثين الأولين اللذين ذكرهما الشيخ طاهر بن عاشور وهما : المبحث الأول، إثبات أن للشريعة الإسلامية مقاصد؛ والثاني، في المقصد العام من التشريع. دون التطرق للمبحث الثالث في المقاصد الخاصة بالمعاملات فخرجت منهما بأهم الأفكار والمعطيات ولم أقف مطولا على ذكر الأدلة التي عددها الإمام طيلة صفحات كتابه فإن الوقوف عليها يحتاج لتقص خاص ليس هذا مجاله.

الشيخ طاهر بن عاشور، الإمام المصلح والفقيه المجدد

لا بد أولا من التعرض لعلامة تونس الإمام الطاهر بن عاشور ومنهجه الإصلاحي، فرغم أن اسم الشيخ يغني على إطالة التعريف به، إلا أن الكثير من الناس لا يعرفون الأفكار الإصلاحية للشيخ الطاهر بن عاشور. فهو الفقيه الذي أعاد إحياء علم المقاصد أو كما يحلو للبعض تسميته الشاطبي المعاصر من خلال كتابه مقاصد الشريعة الإسلامية، وهو صاحب المنهج الإصلاحي في التعليم من خلال كتابه أليس الصبح بقريب، وهو الشاعر الفذ ومفسر القرآن الكريم وفقيه تونس المالكي وعالمها.
ولا غرو في ذلك إذا علمنا أن الشيخ طاهر بن عاشور هو تلميذ الشيخ سالم بوحاجب الذي تتلخص آراءه في ضرورة التخلص من الجمود على التراث وملائمة مقاصد الشرع بمتطلبات الواقع والإعراض عن كثرة النقول في التدريس حتى تتكون لدى الطالب ملكة عقلية تتلقف القول فتعرضه على ما عنده من أدلة فيجمع بين إعمال العقل وبين البحث على الدليل. كما تأثر الشيخ الطاهر بالشيخ محمد عبده ومنهجه الإصلاحي ووطد معه العلاقة أثناء زيارته لتونس في 1903 وكذلك تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا من خلال مجلة المنار التي كان الإقبال عليها شديدا من قبل النخبة الزيتونية حتى ذكر في المجلة أن العدد الواحد منها يقرؤه العشرات من التونسيين. فمن كان متأثرا بهؤلاء الثلاثة الأعلام فقد علم معدنه وكشف عن عمق فكره. (1)

ومما روي عن الشيخ طاهر بن عاشور محنته التي تعرض لها من قبل المقلدين، بل إن الشيخ قد أدان تفكير المعارضين للإصلاح الذي زعموا أن ما بين أيديهم هي الطريقة الوحيدة التي ارتقى بها سلفنا (2) فعاب عليهم تقديسهم لكل قديم وخوفهم من كل جديد حتى أنه "ارتسم في عقولهم أنها [أي ما بين أيديهم من أقوال وعلوم ومناهج هي] قصارى ما تبلغه عقول البشر ... وأن غاية الخلف ان يفهم كلام السلف، فإذا تعرضوا لمسألة استأسدوا لدفع كل ما خالف علمهم فيها مما أثمره كل البحث، حتى إذا اتضحت براهين المخالف، وعجزهم في الخطاب، قالوا هذا من قبيل السحر اللساني، أو السفسطة التي نسمع بها في كتب المنطق" (3). بل لقد هاجم الشيخ الطاهر بن عاشور من "كان همهم أن يوقفوا الناس عند ما بلغ إليه العلماء المتقدمون، فحجروا النظر وخوفوهم عواقب القول بالرأي، وألقوا في نفوس الحكام والملوك أن الخروج عن ذلك قيد شبر هو كالإلحاد في الدين وكفران لفضيلة العلماء الماضين، إلى كلمات لفقوها وأحاديث وضعوها، ورهبانية في تقديس المتقدمين ابتدعوها." (4) فلام على هؤلاء أنهم "لا يجعلون مباحثهم في التفاصيل والكيفيات بل يغلقون باب المباحثة، ويقاومون كل طلب للإصلاح ولو كان صوابا. وهذه طريقة الحذر تأتي من قلة غوص الأفهام في المساعي." (5)
 فهذه شذرات من بعض مواقفه رحمه الله تعالى وبعض أقواله حتى يعلم فكر الإمام ومنهجه الإصلاحي.

أهمية علم المقاصد واحتياجنا إليه مع علم الأصول

اشتبه على البعض فتلقى علم المقاصد تلقي المرتاب وكأنه دخيل على الشريعة الإسلامية، بل زعم بعضهم ذلك، وما وقع هذا إلا لإلتباس في أفهامهم وعدم تفريق بين العلم في ذاته وبين تدوينه. وانطلاقا من ذلك يجيب الإمام علال الفاسي رحمه الله على بعض المفكرين ممن ذكر أن علم المقاصد مصدر خارجي عن الشريعة الإسلامية وقع إقحامه فيها حتى تقع الملائمة مع العصر ويتم تجاوز الهفوة الفاصلة بين الفقه وأصوله وبين ما شيد من قوانين ونظريات في العصر الحالي، فيؤكد أن "مقاصد الشريعة الإسلامية ليست مقاصد خارجية للتشريع ولكنها من صميمها وهي جزء لا يتجزء من المصادر الأساسية." (6) كما يجيب عمن اشتبه عليه فزعم أن تدوينه وتفصيله مؤخرا إنما هو إثبات لإقحامه في مصادر التشريع، فمرد ذلك أن تدوين علم المقاصد إنما هو من قبيل تدوين علم الأصول وعلم العقيدة والفقه والحديث. فيقول"ليس بصحيح ما يطلق كون الأصول أو المبادئ قد ابتكرت من بعد وإنما الواقع أنها كانت مستعملة دون أن تستقرأ أو تدون في الصدر الأول، فاستقراؤها وتدوينها هو الجديد وهو فن يطلق عليه تخريج المناط ومعناه البحث عن علل الأحكام التي استنبطها الأئمة." (7)
أما الإختلاف بين أصول الفقه والمقاصد هو أن العلم الأول مقتصر على ما تؤول إليه "ألفاظ الشريعة في انفرادها واجتماعها وافتقارها" (8) فهو من قبيل البحث في الأحكام القياسية لا في علل الأحكام ومقاصدها. بينما علم المقاصد يهب لك من أدوات البحث في الشريعة الإسلامية ما يتجاوز الأحكام القياسية والألفاظ وما وراءها من مباحث إلى النظر في علل الأحكام ومقاصد التشريع. (9)

وقد ذكر الشيخ أن علم أصول الفقه ليس كافيا لحصر الخلاف بل إن دارس الأصول يجد أن الإختلاف فيه يبلغ معظم مسائله ويعزو الشيخ ذلك للإختلاف في الفروع الذي ترتب عليه إختلاف في الأصول، إذ أن الفقه فرع من هذا الأخير، وقد دوّن الفقه قبله بنحو قرنين فصاحَب ذلك اختلاف في الأصول وطرق الاستدلال عليه (10). ويرى الشيخ طاهر بن عاشور أن العلماء الذين أرادوا أن يجعلوا من علم الأصول علما قطعيا لا يتطرق إليه الاحتمال في ما تفرع عنه من قواعد كالسمعيات القطعية ذهبت محاولاتهم في ذلك هباء، فإننا "إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد ذوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة" ! (11) ذلك أن حصر الخلاف في الأصول لن يكون إلا إذا تم حصر الخلاف في ما هو أشمل منه أي المقاصد، وهو من قبيل ما فعله العلماء من قبل فحصروا الخلاف في الفقه بتحديد أصوله وتضييق الخلاف فيها. فهذا مما نصنفه ضمن أهميات علم المقاصد.

كما أثبت الشيخ الطاهر بن عاشور في بداية قسمه الأول من الكتاب أن الله لا يشرع القوانين عبثا، وأن لكل حكم مقصد وقد ثبت ذلك بالأدلة القطعية من قبيل قوله تعالى "وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ..." و"أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون" ولم يجعل الله الشرع إلا لإقامة نظام الناس. (12) فهذا يوجب إذا البحث عن علل الأحكام والمراد بها. فإذا ثبت "لنا اليقين أن أحكام الشريعة كلها مشتملة على مقاصد الشارع، وهي حكم ومصالح ومنافع" (13) توجب علينا حينها البحث عنها واستقراءها من خلال النصوص.

كيف يتصرف الفقيه في النصوص ؟

يقع تصرف الفقيه في الشريعة وأدلتها لاستنباط الأحكام على خمسة أنحاء :
الأول، فهم أقوال الشريعة والاستفادة من مدلولات تلك الأقوال بحسب الاستدلال اللغوي وبحسب النقل الشرعي. والثاني، النظر في ما يعارض الأدلة التي لاحت للمجتهد، فإن سلم دليله مما يعارضه أنفذه، وإن ألفى له معارضا نظر في كيفية العمل بالدليلين معا، وإن تعذّر رجح أحدهما على الآخر. وثالثا، قياس ما لم يرد حكم الشارع فيه على ما ورد فيه حكم بناء على مسالك العلة المبينة في علم أصول الفقه. ورابعا، إعطاء حكم لفعل حادث للناس لا يعرف حكمه فيما لاح للمجتهدين من أدلة الشريعة، ولا له نظير يقاس عليه. وخامسا، تلقي بعض أحكام الشريعة تلقي من لم يعرف علل أحكامها ولا مقاصدها، فيتهم نفسه بالقصور عن إدراك حكمة الشارع منها، فيسمي هذا القسم التعبدي. (14)

والفقيه محتاج في كل ذلك إلى مقاصد الشريعة ذلك أن ما يصل إليه الفقيه لا ينبغي أن يحيد عن مقاصد الشرع. ويظهر ذلك خاصة في الطريقة الثانية والثالثة والرابعة، فإذا تعارض دليلين يمكن للفقيه أن يرجح أحدهما على الآخر بما لاح له من أن أحدهما "غير مناسب لأن يكون مقصودا للشارع على علاته" (15) وأما الطريقة الثالثة فإن علل الأحكام أبرز دليل على ابتغاء المقصد في سن الحكم فكانت القاعدة "العلة تدور مع الحكم وجودا وعدما" وأما الطريقة الرابعة فهي ما أثبت فيه الإمام مالك رحمه الله حجية المصالح المرسلة وهو ما أثبت فيه الفقهاء كذلك وجوب مراعات الكليات الضرورية وألحقوا بها الحاجية والتحسينية. (16)

طرق استقراء الفقيه للمقاصد

الطريق الأول وهو أعظمها يهدف إلى استقراء الشريعة في تصرفاتها وينقسم إلى نوعين. النوع الأول، استقراء العلل والحكمة من تشريع حكم ما، فإذا تواترت وتضافرت نتائج الاستقراء علمنا أنها من قبل المقاصد الشرعية، فهي مجموع جزئيات نستخلص منها حكما عاما تدور الجزئيات حوله. ومثال ذلك ما ذكر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تحريم خطبة الرجل على خطبة أخيه والنهي أن يسوم على سومه وعدم تناجي انثنان دون ثالثهما، فيعلم أن علة النهي في ذلك هي الوحشة التي تنشأ بين المسلمين فيستخلص أن من مقاصد الشريعة دوام الاخوة بينهم وجمعهم وتآلفهم. والنوع الثاني، استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة ما، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد من مقاصد الشارع. ومثاله ما ذكر من أحاديث في النهي عن احتكار الطعام و"من احتكر الطعام فهو خاطئ" (17) والنهي عن بيع الطعام بالطعام، فيستخلص أن المقصد من ذلك رواج الطعام وتيسير تناوله. ومنه أيضا كثرة الأمر بإعتاق الرقاب والذي يدلنا أن حصول الحرية مقصد من مقاصد الشارع. (18)
الطريق الثاني، أدلة القرآن واضحة الدلالة، فإن آيات القرآن متواترة بلا شك فإذا جمعت مع تواترها دلالتها القطعية تسنى لنا بناء مقصد شرعي على ما ظهر لنا، كقوله تعالى "والله لا يحب الفساد" أو "ولا تزر وازرة وزر أخرى" ...
الطريق الثالث، السنة المتواترة سواء أكان ذلك من قبيل التواتر المعنوي المشاهد عن عموم الصحابة رضوان الله عليهم كمثل ما يعرف بالحبس وما تركه الصحابة في المدينة من ذلك. أو كان عن طريق التواتر العملي كما روي في صحيح البخاري من أن أبي برزة قطع صلاته ليدرك فرسه فلما عُتب عليه روى ما رآه من تيسير عند الرسول صلى الله عليه وسلم ورجح سلامة قطعه الصلاة ثم العودة إليها على فقدانه فرسه وإدراك أهله ليلا، أي رجح أقل الخيارين ضررا، بناء على ما استقرأه من تيسير الرسول صلى الله عليه وسلم وما ورآه منه.

كما نقل الشيخ طاهر بن عاشور كلاما مهما للإمام الشاطبي، قد خالفا فيه رأي الظاهرية الذي يحيل إلى إلغاء المقاصد الشرعية فيزعمون أن مقصد الشرع غائب عنا حتى تأتينا النصوص التي تعرفنا به، فلا مقصد إلا من النص، ومآل هذا الوجه الحمل على الظاهر مطلقا. كما خالف فيه رأي الباطنية الذين زعموا أن ما يظهر من نصوص ليست مقصودة لذاتها ولو كانت قطعية وحملوا ذلك على كل الشريعة حتى لم يبقى منها شيء. ورجحا أن يقال بـ"الأمرين جميعا، على وجه لا يخل فيه المعنى بالنص ولا العكس، لتجري الشريعة على نظام واحد لا اختلاف فيه ولا تناقض، وهذا الذي أمه أكثر العلماء." (19) (20). إذا فالإجتهاد وتتبع مقاصد الشريعة الإسلامية لا يعني الخروج عن الشريعة، فالرأي المبني على ذلك لا يقبل عند أهل الرأي أنفسهم إلا إذا كان مندرجا تحت أصل من أصول الشريعة الثابتة، كما أن تتبع المنهج الظاهري والأخذ بالنصوص دون تمحيص لا يثبت في ميزان الشرع فهو مرجوح أيضا. ولهذا تقعّد القواعد في هذه العلوم حتى لا تثبت عليها إلا الآراء المندرجة ضمن نطاق الشريعة وأحكامها المستنبطة جمعا بين النصوص وبين مقاصد الشارع فلا تخل بأي ركن من الأركان. (21)

الأدلة اللفظية الشرعية لا تستغني عن المقاصد

وجب التفريق بين الأحوال التي يصدر عليها قول أو فعل للرسول صلى الله عليه وسلم فلا ينبغي أخذ كل قول على محمل واحد دون تفريق وتبين فعد الإمام الطاهر بن عاشور اثنا عشر حالا وجب التفريق بينها وضرب في كل حال منها مثالا لا يسعني ذكرها هنا فمن أراد ان يراجعها فليعد لكتابه. وقد اقتفى الإمام الطاهر بن عاشور أثر الإمام القرافي رحمه الله في ذلك. والأحوال التي ذكرها الإمام القرافي هي : التشريع، الفتوى والقضاء. وزاد عليها الإمام طاهر بن عاشور : الإمارة، الهدي، الصلح، الإشارة على المستشير، النصيحة، تكميل النفوس، تعليم الحقائق العالية، التأديب، والتجرد عن الإرشاد. (22)

فمن بين الأحاديث ما نعده ضمن واحد من تلك الأقسام، ومن بينها أيضا ما تنازع فيه العلماء ضمن أي قسم يندرج، هل كانت تصرفا بالفتوى أو تصرفا بالإمامة كقوله صلى الله عليه وسلم من أحيا أرضا مواتا فهي له وكقوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة "خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف" هل هو تصرف بالقضاء فيكون لزاما على من كان في مثل حالها التحاكم للقاضي أو كانت بالفتوى فلا يلزم بذلك. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم "من قتل قتيلا فله سلبه" .. ويضيف الإمام علال الفاسي على ما ذكره الإمام شهاب الدين القرافي والإمام طاهر بن عاشور قسم آخر وهو التصرفات الإنسانية للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما "يأتي فيه الرسول بأفعال عادية جبلية تقتضيها دواعي الحياة البشرية وذلك كحالة الطعام والشراب واللباس والقيام والقعود ... ويدخل في هذا كل ما اجتهد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من الأعمال الدنيوية غير مستند فيه إلى وحي" (23). والمهم أن نعلم أن الفقيه وجب عليه التفريق بين أنواع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يحسن الاستشهاد بها وهذا الباب لا يقل أهمية عن تفريق الحديث بين الحديث الصحيح والحديث الضعيف. وسيتم الحديث حول هذا في بابه.

ماهي المصلحة وماهي المفسدة ؟

إن الإصلاح هي الغاية الكبرى التي بعث من أجلها الأنبياء وشرع الله من أجلها الشرائع فـ"المقصد العام للشريعة الإسلامية هو عمارة الأرض وحفظ نظام التعايش فيها واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عدل ... والمراد بالإصلاح هنا إصلاح أحوال الناس لا مجرد صلاح العقيدة." (24) فالإصلاح مفهوم شامل يشمل العقيدة كما يشمل جميع نواحي الحياة فـ"لقد علمنا ان الشارع ما أراد من الإصلاح المنوّه به مجرد إصلاح العقيدة وصلاح العمل بالعبادة كما قد يتوهم، بل أراد منه [أيضا] صلاح أحوال الناس وشؤونهم في الحياة الإجتماعية فإن قوله تعالى : "وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" أنبأنا أن الفساد المحذر منه هنا هو إفساد موجودات هذا العالم." (25)

فكل إصلاح إذا يكون في جانب حصول المصلحة، وكل تقصير في الإصلاح أو تقهقر في سلمه يكون في جانب المفسدة. ويعرف الشيخ الطاهر بن عاشور المصلحة بأنها "وصف للفعل يحصل به الصلاح، أي النفع دائما أو غالبا، للجمهور أو للآحاد. فقولي دائما يشير إلى المصلحة الخالصة المطردة، وقولي أو غالبا يشير إلى المصلحة الراجحة في غالب الأحوال، وقولي للجمهور أو للآحاد إشارة إلى أنها قسمان ... وأما المفسدة فهي ما قابل المصلحة وهي وصف للفعل يحصل به الفساد أي الضر، دائما أو غالبا، للجمهور أو للآحاد." (26) وذكر أن فعلا إن غلبت فيه المصلحة على المفسدة ألحق بعداد المصالح، وإن كانت الأخرى جعل من قبيل المفاسد. (27)

كما ذكر الشيخ طاهر بن عاشور أن المنهيات مرتبة ومتفاوتة كالمصالح، فقد ذكر في القرآن الفواحش والكبائر واللمم (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) كما ذكر الإثم والبغي (قل إنما حرم ربي الفواحش ...) وجاء وصف المنهيات بأن بعضها أكبر من بعض "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ..." (28). وكان ذلك دافعا للصحابة للقياس على ما لم ترد فيه حدود مما كان أشد من الزنا أو قذف المحصنات كشرب الخمر وغيره. (29)

ومن القواعد التي حددها الإمام علال الفاسي رحمه الله لقواعد تقييد المصلحة بالمقاصد :
- تحمل الضرر الخاص في سبيل دفع الضرر العام.
- إذا عارضت المصلحة مفسدة فإن دفع المفسدة مقدم وهذا معروف بلفظ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. (ذلك إن كانت المفسدة مساوية للمصلحة أو أكبر منها، فإن الفعل يكون في عداد المفاسد، وإلا كان من قبيل المصلحة كما ذكر في تعريف الإمام طاهر بن عاشور)
- اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها لأن الله شرع في كل تصرف من التصرفات ما يحصل مقاصده ويوفر مصالحه. وهذه القاعدة تعني أن الأحكام التي قررتها الشريعة تقصد لتحقيق غاية ومصلحة، ويظهر ذلك جليا في باب المعاملات، وهذه قاعدة نقلها علال الفاسي عن العز بن عبد السلام وضرب لها مجموعة من الأمثلة. ثم قال "لا نريد من ذكر هذه القواعد المقيدة للمصلحة حصرها واستقراءها، وإنما نريد أن ننبه إلى أن المصلحة لا تتعدى مجالها. ولا تعتبر إلا إذا لم يكن هنالك من الشارع ما يدل على إلغاءها، أو تقديم مصلحة أخرى عليها أو درء مفسدة قبلها." (30)



(1) صفحة 361، 362 و363 كتاب الشيخ طاهر بن عاشور وإسهامه في تجديد الفكر الديني
(2) أليس الصبح بقريب ص 230
(3) كتاب الشيخ طاهر بن عاشور وإسهامه في تجديد الفكر الديني ص380 و381
(4) من مقال الشيخ محمد الحبيب بن خوجة في مجلة جوهرة الاسلام العدد 43 سنة 1979
(5) كتاب أليس الصبح بقريب للإمام الطاهر بن عاشور ص109 و110
(6) مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها، الإمام علال الفاسي ص45
(7) المرجع السابق ص54 و55
(8) مقاصد الشريعة الإسلامية، الإمام الطاهر بن عاشور ص167
(9) المرجع السابق ص167
(10) المرجع السابق ص166
(11) المرجع السابق ص172
(12) المرجع السابق ص179
(13) المرجع السابق ص246
(14) سمي بالقسم التعبدي ذلك أن كل ما يدور في هذا القسم مما تدق علله أو تخفى علينا كسبب اختلاف الركعات بين الصلوات وهذا القسم مما لا تذكر علة الحكم في دليله الشرعي فيؤخذ كما هو ونسلم به. في حين أن قسم المعاملات والسياسة الشرعية علتها واضحة وهي إقامة النظام للناس وحفظه وإصلاح أحوال المجتمع، فيكون هذا القسم مقصده واضحا ظاهرا بخلاف القسم التعبدي. وقد خصص الشيخ الطاهر بن عاشور المبحث الثالث من كتابه لدراسة هذا القسم
(15) المرجع السابق ص185
(16) المرجع السابق ص 183 و184
(17) رواه الإمام مسلم
(18) مقاصد الشريعة الإسلامية، الإمام الطاهر بن عاشور، ص193
(19) المرجع السابق ص195
(20) المرجع السابق، فصل طرق استقراء مقاصد الشريعة
(21) مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها، الإمام علال الفاسي، ص54
(22) مقاصد الشريعة الإسلامية، الإمام الطاهر بن عاشور، ص212
(23) مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها، الإمام علال الفاسي، ص116
(24) المرجع السابق، ص45 و46
(25) مقاصد الشريعة الإسلامية، الإمام الطاهر بن عاشور، ص285
(26) المرجع السابق، ص279 و280
(27) المرجع السابق، نقله الإمام الطاهر بن عاشور عن الإمام الشاطبي في ص282 ووافقه عليه.
(28) المرجع السابق، ص290
(29) المرجع السابق، ص291
(30) مقاصد الشريعة الإسلامية وسماحتها، الإمام علال الفاسي رحمه الله، ص187