dimanche 9 mars 2014

05- أسباب الإختلاف ووهم الفرقة الناجية


في نقد السلفية وضرورة التجاوز

05- أسباب الإختلاف ووهم الفرقة الناجية

وهم الفرقة الناجية :

من الأحاديث التي يرتكز عليها التيار السلفي حديث افتراق الأمة الإسلامية إلى ثلاث وسبعين شعبة كلها في النار إلا الجماعة التي تقتفي أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فهذا الحديث من أول الأحاديث التي يتلقاها العقل السلفي ومن المعلوم أن اللحظات الأولى في أي تجربة للتموقع ضمن فكر ما هي اللحظات الأبرز التي تصنع الوعي المستقبلي لفترة لا بأس بها وتدفع إلى التموقع في رحاب ذلك الفكر إلى حدود الوصول لمرحلة النقد الذاتي الذي يتعذر عمن تشبع عقله بالحواجز المقامة لردعه في التفكير في النقد، فيُصنع لدى حديث العهد بالإلتزام الذي بدأ التوغل في الفكر السلفي وتبنيه والذي لم يمض على إلتزامه سوى أيام معدودة رد فعل صدامي مع كل مخالف لفكره المكتسب بناء على ذلك الحديث وحرصا منه على عدم التفريط في "المنهج القويم" بعد أن وجد نفسه قد اهتدى إلى "الحق" فيصادم كل فكر مخالف يعتقد أنه سيقوده إلى إحدى تلك الفرق "الضالة"، فيلتقي إذ ذاك كل خلاف بوعي مسبق قوامه الرفض !

نص الحديث المشهور الذي ينتشر على لسان مشايخ السلفية خاصة إذا كان مدار حديثهم إقناع المخاطبين لضرورة تمسكهم بالمنهج السلفي دون غيره من المناهج هو ما روي عن ابن ماجه من حديث عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل يا رسول الله من هم؟ قال الجماعة". (1)

ورغم أن الحديث قد روي من عدة أوجه عن طرق ثمانية لم يخرج منها الشيخان، الإمامين البخاري ومسلم رضي الله عنهما، أي وجه من الوجوه، ورغم أن جميع الأحاديث تراوحت درجتها بين الضعيف والموقوف والمنكر وكان أفضلها حالا الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه والذي لا يحتوي على "كلها في النار ..." وبقيت فيه مؤاخذة عن محمد بن عمرو لكثرة أوهامه (2)، رغم ذلك فإن الحديث المشتهر الذي بقي يتناقل عند أئمة السلفية وطلبة العلم منهم قبل العامة هو حديث عوف بن مالك ومثله من الأوجه مرادهم في ذلك إبراز أن الفرق كلها في النار إلا واحدة، ليتيسر إثبات أن هذه الواحدة إنما هي السلفية، أو بالأحرى السلفية التي عليها الشيخ دون غيرها !

فتجد مدار كلام الأئمة في هذا الحديث على عدة أوجه. فمنهم من رد الحديث وضعفه متنا وسندا، فمع كثرة الأخذ والرد في من رواه تجد أن المتن فيه إشكال.(3) أولا للاختلاف الشديد في ألفاظ الروايات مما يفتح باب التفسير والتأويل فينتقل الحديث إلى قسم ظني الثبوت وظني الدلالة فلا تقوم به الحجة ولا يفصل به عند التنازع فيكون الأولى من عرض الحديث على عامة الناس وخاصة الملتزم حديث العهد الانتقال لما صح وما فيه عبرة من تفاصيل المناهج وأساسياتها، وثانيا لاحتمال أخذ بعض أوجه الحديث في منحى يفتح باب التكفير عند كل اختلاف فلا يمكن رسم حدود الفرق واختلافها ومتى تتمايز فرقة عن أخرى وهل يكون ذلك في المسائل العقدية والفقهية معا أو العقدية دون الفقهية وما حدود الاختلاف في كل واحدة فيها. ولذلك حمل بعض العلماء أن الحديث في حال قبوله والتغاضي عن المآخذ عليه ينبغي أن يفهم على أن الفرق التي مآلها النار ممن أضاعت المعلوم من الدين بالضرورة وفرطت فيها من قبيل غلاة الجهمية وغلاة الصوفية وغلاة الشيعة وغيرهم، ويميل بعضهم الآخر إلى أن الحديث عن فرق الأمة الإسلامية دون أن يكون الحديث بمعنى خلودهم في النار فكانوا من قبيل العصاة (4)، كما تجد في رواية بلفظ "  كلهم في النار إلا ملة واحدة" من فسر الملة على أنهم أصحاب الدين الواحد ففرق بين هذه الملة وهي ملة الإسلام وبين غيرها من الملل. 

وهكذا حل العلماء إشكالية هذا الحديث دون الوقوع في تكفير كل مخالف كما يفعل بعض غلاة السلفية اليوم ممن استحل أن يجعل كل مخالف له في أمور العقيدة ولو صغر الاختلاف من تلك الفرق الضالة أهل النار، ولا تسأل إذا كان الاختلاف في شرح الأحاديث في المجال الفقهي وخاصة في السياسة الشرعية، فإن منهم من يصنفك ضمن بعض تلك الفرق حالما تتعلق بأحد المشايخ وتستمع إليه وتعمل برأيه ومنهم من يتبرأ منك حالما تتبنى رأيا مخالفا له فيحكم هواه في الحكم عليك فإن خالفته في حديث يصنفه ضمن الأحاديث المركزية بالنسبة له جعلك ضالا مضلا وإن خالفته في ما دون ذلك من الأحاديث والآيات مما لا يجد فيه إشكالا عند الإختلاف فإنه يمسك عنك لسانه، ومنهم من يغلو حتى يرمي الكفر على كل من خالفه في مسائل السياسة الشرعية خاصة ويستحل ذلك بفهم قاصر مبني على هذا الحديث وغيره من الأحاديث والآيات التي تندرج في إطاره. (5) (6)

وهؤلاء من قصدهم الإمام طاهر بن عاشور بقوله : "لو قصر الخلاف على ما بين العلماء لكان أمر التفريق يسيرا، ولكن حف به من الحمية والتعصب ما بعث كل طائفة على الانتصار بجماعة من العامة يلقنونهم سطحيا فساد مذاهب المخالفين، فتتخيلها العامة إلحادا في الدين، فانشفت الأمة تفاريق العصا." (7) فتعلم بذلك مغبة إلقاء أمثال هذه الأحاديث لعامة الناس وحديثي العهد بالإلتزام.

أسباب الإختلاف :

إذا تجاوزت عقبة وهم الفرقة الناجية يمكنك بعدها التعرف عن أسباب الاختلاف المشروعة حتى لا يكون أحدنا حاطب ليل يجوّز كل اختلاف ولو كان خارج دلالة النصوص الشرعية ومعانيها ومقاصدها. فإن وهم الفرقة الناجية يجعلك لا تبرح باب التقليد وتخشى ولوج باب الإجتهاد، كما أن إطلاق الاجتهاد دون ضوابط شرعية يقوض حدود الدين ويبيح كل رأي ولو كان شاذا لا سند له. فللإختلاف أسباب إذا أحصيناها سهل علينا معرفة حدود الاختلاف وضوابطه.

إذا علمنا أن الاجتهاد فرض على أهله في كل عصر علمنا أن الآراء ستتحد في مسائل وتتفق وستختلف في أخرى وتفترق. فكان محل اتفاقها هو الاجماع، وكان محل اختلاف تلك الآراء منطقة للنظر في أقوى الادلة وأصوبها. وإذا جمع الاختلاف مع الأسباب العلمية التي تكسب كلا الرأيين شرعية في ميزان الكتاب والسنة، إذا جمع معها أدب الاختلاف وحسن إدارته فإنه بلا شك سيكون عاملا إيجابيا يخدم الدين ويدفع بالحركة الفكرية والعلمية. فإن الإجتهاد حركة عقلية في النصوص (8) تبطل أسباب الكسل العقلي وذهاب ريح العلم والجد في تحصيله.

إن الإسلام واحد، والحق واحد لا يتعدد، ورغم ذلك فقد كان من حكمة الله عز وجل أن جعل في الإسلام مصدرين أساسيين للبحث والاستدلال هما الكتاب والسنة اللذان تفرع عنهما أصول فقهية أخرى كالقياس والإجماع والاستحسان والمصالح المرسلة، ولو شاء الله أن يبطل أسباب الإختلاف في الدين ويقطع التفرق في الآراء منذ أول جيل لآخره لكان ذلك، ولكن كان من حكمته أن جعل لورثة الأنبياء حظا في البحث والاجتهاد وإعمال العقل ولولا ذلك لكان العلم مبتورا يحظى به قاصر الهمة كما يحظى به عاليها ويتساوى الجاهل والعالم وينقطع تمييز الناس ممن ركن للمحرمات والمتشابهات وأضله الله على علم ممن اتبع الحق أو اجتهد رأيه في ما بين يديه من أدلة ما استطاع وأخلص النية لله، فإن الله خلقهم ليميز الخبيث من الطيب "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" بل روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله : "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (9). وكما أن العقول تتفاوت عند الناس عامتهم وعلماءهم، فإن فهم النصوص وما وصل لكل واحد منها تتفاوت أيضا، فيكون بذلك الاختلاف واقعا لا محالة ولا مناص منه، مشروع في جزئيات الدين لا كلياته، وفي أحكامه الفرعية لا في حدوده والمعلوم منه بالضرورة.

ذكر الإمام ابن السيد البطليوسي رحمه الله أن "الخلاف عرض لأهل ملتنا من ثمانية أوجه، كل ضرب من الخلاف متولد منها متفرع عنها : الأول منها: اشتراك الألفاظ و المعاني. والثاني: الحقيقة والمجاز. والثالث: الإفراد والتركيب. والرابع: الخصوص والعموم. والخامس: الرواية والنقل. والسادس: الاجتهاد فيما لا نص فيه. والسابع: الناسخ والمنسوخ. والثامن: الإباحة والتوسع." (10)
فالأول يعود إلى المصطلحات وتعريفها، والثاني من قبيل الإختلاف بين العلماء في فهم الصفات الخبرية ومن قبيل حديث نزول الله إلى السماء، والثالث كمن حرم الخمر للجمع بين آيتين "يسأَلونك عن الخمر والميسر، قل فيهما إِثم كبير ومنافع للناس" و"قل إِنَّما حرَّمَ ربِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهرَ مِنْها وما بَطَن والإِثمَ". فـ"تركب من مجموع الآيتين قياس أنتج تحريم الخمر، وهو أن يقال: كل اثم حرام، والخمر إثم، فالخمر إذاً حرام." (11) ومنهم من حرمه بالإفراد بآية "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان إلى قوله: فهل أنتم منتهون". ورابع الأسباب الخصوص والعموم كقوله تعالى " الذِينَ قَالَ لَهُمْ الناسُ إِنَّ النَاسَ قَدُ جَمَعُوا لكم" والمقصود بلفظ الناس الأول رجل واحد وهو نعيم بن مسعود ولم يقصد أن جميع الناس قد جمعوا لمن خاطبهم ! وكذا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ... الحديث" (12). وخامس الأسباب الرواية والنقل في الحديث سواء أكان ذلك لفساد الإسناد أو لنقل معنى الحديث دون لفظه أو لإعرابه أو لتصحيفه أو غير ذلك من الأسباب وقد عدّ الإمام البطليوسي ثمانية أسباب للإختلاف في هذا الباب أشهرها السبب الأول. وسادس الأسباب الإختلاف في ما لا نص فيه وسابعها الخلاف العارض من قبل النسخ والإختلاف التي تدور حول موضوعه من إثبات للنص الناسخ وللنص المنسوخ وما يثار من نسخ السنة بالقرآن من عدمه وما إلى ذلك. وآخرها الإختلاف في ما أباحه الله عز وجل كالإختلاف في القراءات الصحيحة للقرآن الكريم وغير ذلك مما يصطلح عليه بمنطقة العفو. (13)

إذا علمت أسباب الاختلاف سهل عليك تقبل الإختلاف في حد ذاته بلا تعصب للآراء، وتركت وهم الفرقة الناجية التي تم تصويرها تصويرا كاريكاتوريا فجعلت صاحبة الرأي الواحد والفهم الواحد وضيق حيز الإختلاف فيها حتى إننا نكاد ان نكون قاب قوسين أو أدنى من أن يعود التناحر بين مدارس الفقه كما كان من قبل وحتى صار أتباع التيار السلفي عوض أن ينظروا في الأدلة جعلوا ينظرون في أصحاب القول قبل النظر في أدلته، فتقبلوا ما رضته قلوبهم من أقوال بعد عرض أسماء أصحابها وتزكية بعضهم ورفض بعضهم وتركوا ما لم يرضوه لمجرد الهوى والعاطفة الجياشة في المسائل العلمية بل أنكروه وخالفوه. فلم ينظروا في الأدلة ولا في أسباب الإختلاف ولم يمحصوا السليم من السقيم. وهذا منهج باطل ابتدعه من زكى بعض الشيوخ في مصاف الفرقة الناجية وصنف آخرين في الفرق الهاوية وضيق مجال الإختلاف حتى لم تسعه وطائفته فراحت السلفية بتياراتها تتقاذف التهم وينسب كل منهم لنفسه أنه من الفرقة المعنية في الحديث، فالأول ينعت الآخر أنه من الخوارج ممن لن يشم رائحة الجنة والآخر يزعم أن مخالفه مرجئ صاحب "عقيدة فاسدة" ويزاحم كل واحد فيهما على حيازة لقب السلفية دون الآخر ! وهكذا عوض أن تناقش الأدلة راح بعضهم يتقاذف التهم ويتبادل الكيد ويحاولون الظفر بلقب لا بشيء إلا بقلة العلم بدلالة الحديث وصحته وأبعاده وبالرجم بالغيب.

وإننا لو فهمنا الحديث على محمله السليم، إذا أخذنا بأسلم طرقه وضربنا جدلا بصحته، فإننا لا نقع في هذا التضييق الذي يكاد أن يدفعنا لإغلاق باب الإجتهاد مرة أخرى مخافة الوقوع في براثن الفرق الضالة واجترار الموروث دون اجتهاد والتقليد في ما وجب فيه البحث والنظر خاصة في ما أحدث من قضايا واستجد. فنجمع بذلك رونق الإجتهاد وطيب ثماره إلى أدب الإختلاف ونقاوة معدنه.

----------------------------------------------
(1) رواه الإمام ابن ماجه
(2) نص الحديث عن أبي هريرة مرفوعا : "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" وهذا لفظ الرواية الأولى عند ابن حبان وباقي الروايات نحوه وليس في الحديث زيادة:" كلها في النار إلا واحدة"، قال الإمام الشوكاني رحمه الله : "أما زيادة كلها في النار إلا واحدة فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم أنها موضوعة."، كما أن هذا الحديث لا يصح أن يندرج ضمن الأحاديث الضعيفة التي تتقوى بغيرها، نقل الشيخ حاكم المطيري في بحثه عن الحديث مقولة للإمام أحمد شاكر حول الموضوع جاء فيها "وبذلك يتبين خطأ كثير من العلماء المتأخرين في إطلاقهم أن الحديث الضعيف إذا جاء من طرق متعددة ضعيفة ارتقى إلى درجة الحسن أو الصحيح، فإنه إذا كان ضعف الحديث لفسق الراوي أو اتهامه بالكذب ثم جاء من طرق أخرى من هذا النوع : ازداد ضعفاً إلى ضعف، لأن تفرد المتهمين بالكذب أو المجروحين في عدالتهم، بحيث لا يرويه غيرهم يرفع الثقة بحديثهم، ويؤيد ضعف روايتهم"
(3) الإمامين ابن حزم وابن الوزير
(4) انظر كتاب الصحوة الإسلامية بين الإختلاف المشروع والتفرق المذموم، للشيخ يوسف القرضاوي
(5) لا تغتر بكل مصحح للحديث، فإن منهم من يتساهل في تصحيح الأحاديث والأخذ بها فشروطه لا ترتقي لكي تكون شديدة كشروط الشيخين مثلا، كابن حبان والترمذي والحاكم، ولذلك تعد أحاديث الإمامين البخاري ومسلم من أصح الأحاديث لشدة شروطهما في الأخذ بالحديث.
(6) في هذا الحديث وطرقه بحث مفصل ومهم للشيخ حاكم المطيري بعنوان (حديث الافتراق "تفترف أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" بين القبول والرد دراسة حديثية إسنادية) ارجو العودة إليها حتى تحصل فائدة أعمق، وقد استعنت بها في ما كتبت.
(7) كتاب أليس الصبح بقريب ص207 للشيخ العلامة محمد الطاهر بن عاشور
(8) قول الإمام طاهر بن عاشور في تعريفه للإجتهاد
(9) رواه الإمام مسلم في صحيحه
(10) انظر كتابه الإنصاف في بيان سبب الخلاف
(11) الإمام ابن السيد البطليوسي المرجع السابق
(12) حديث صحيح.
(13) لمزيد الأمثلة انظر كتاب الإنصاف.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Remarque : Seul un membre de ce blog est autorisé à enregistrer un commentaire.